لا محرّمات في موسم الانتخابات. ولا محرّمات في قوى الأمن الداخلي التي قررت أن تنوب عن الوزارات ومجلس النواب، لتشرّع المخالفات التي تتضاعف في ظل الطلب العالي للرشى الانتخابية، وخاصة لحساب تيار المستقبل. في قرار واحد، وفي يوم واحد، وفي منطقة واحدة، شرّع المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، مئات المخالفات، بينها 124 بئراً ارتوازية. واللافت أن القرارات المماثلة تصدر بمعدّل مرة في الأسبوع، وفي كل المناطق!
كأن السلطة ورئاسة الحكومة والوزارات والأجهزة الأمنية، موارد أو «مواد أوليّة» سُخّرت شخصيّاً لخدمة الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل، فلا يُعدم منها مصدر إلّا يستغله في رشوة الناخبين لمصلحة لوائحه في الانتخابات النيابية. يتفوّق الحريري دائماً على الآخرين في مسابقة شراء الذمم المنتشرة في البلاد هذه الأيام، قبل يومين من الاستحقاق الانتخابي.
للاطلاع على الجداول، انقر هنا
معذور الحريري. فالسعودية التي اعتادت إغراق لبنان وجمهور قوى 14 آذار وتيار المستقبل بالملايين خلال الانتخابات في عامي 2005 و2009، قرّرت هذه المرّة الاحتفاظ بأموالها، وليدبّر الحريري رأسه. وبالفعل، دبّر الحريري رئاسة الحكومة وامتيازاتها، مستغلاً سلطته أجشع استغلال لمصلحة المعركة الانتخابية، محوّلاً قوى الأمن الداخلي إلى ماكينة للرشوة الانتخابية عبر تشريع مخالفات البناء وحفر الآبار العشوائية المخالفة، مخترقاً عشرات القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، بتوقيع المدير العام اللواء عماد عثمان.
ولأن معارك البقاع، من بعلبك ــــ الهرمل والبقاع الغربي ــــ راشيا إلى زحلة، تحتاج إلى كلّ «الأسلحة» حتى المحرّم منها لمواجهة لوائح حزب الله وحركة أمل وحلفائهما بشكل رئيسي، وقّع عثمان جداول موافقات على مئات المخالفات، يصل بعضها إلى حدود الجرائم البيئية والاقتصادية بحقّ ثروة لبنان المائية وخزينة الدولة، بدل أن تكون قوى الأمن الداخلي الطرف الأول المعني بقمع المخالفات والحفاظ على المال العام.
منذ سنوات، تصدر عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي تعاميم إلى كل وحدات قوى الأمن في المناطق، لتشريع مخالفات. يضع المدير العام نفسه محل عدد من الوزارات مجتمعة. وأكثر المخالفات التي «يُشرّعها» المدير العام تختص بالبناء وبالآبار الارتوازية. في الأولى، تُبرّر المخالفات بالظروف الإنسانية لفقراء يريدون بناء منزل صغير بلا ترخيص، أو يريدون إقامة «كاراج» للعمل فيه، أو تشييد غرفة إضافية «لأن العيلة كبرت». ومن يملك ألفي دولار لإضافة غرفة إلى منزله، او بناء خيمة، «لن يبددها لتحصيل تراخيص لا يضمن منحه إياها». هكذا يبرر الأمنيون مخالفاتهم للقوانين بالجملة. لكن الطامة الكبرى هي في الآبار الارتوازية. ثروة لبنان النادرة، أي المياه الجوفية، يتم استنزافها بعشوائية، وبخفة شديدة تصل إلى حد ارتكاب جريمة السماح بحفر 124 بئراً، في منطقة البقاع وحدها، في يوم واحد!
99 بئراً مخالفة، في يوم واحد، ضمن نطاق سرية بعلبك وحدها!
فقد حصلت «الأخبار» على جداول تشريع المخالفات الصادرة عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، والموجهة إلى قادة سرايا الدرك في البقاع، يسمح بموجبها بحفر 124 بئراً ارتوازية، وأكثر من 200 مخالفة بناء، تتراوح بين السماح ببناء جدار وتشييد طبقة إضافية في منزل. وما حصلت عليه «الأخبار» ليس سوى جداول يوم واحد، في البقاع حصراً، علماً بأن مصادر أمنية أكّدت أن هكذا جداول تصدر بصورة شبه أسبوعية، وتشمل كل المحافظات. لكن، بحسب المصادر نفسها، فإن هذه الجداول تضخّمت بصورة كبيرة في موسم الانتخابات.
الجداول التي حصلت «الأخبار» على نسح منها، صادرة بتاريخ 12 نيسان 2018. في الجدول الموجّه إلى «العقيد قائد سرية زحلة»، تحت عنوان «جدول بالموافقات الخطية الصادرة عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي»، 125 مخالفة عقارية لـ 125 شخصاً من قرى قضاء زحلة: قب الياس، بر الياس، زحلة ـــ تل شيحا، سعدنايل، تعلبايا، مجدل عنجر، المعلقة، تربل، رعيت، نيحا، الفرزل، علي النهري ــــ زحلة، كفرزبد، سعدنايل ـــ حي العرب، النبي آيلا، المرج، عنجر، حوش حالا ـــ رياق. وتتضمّن المخالفات: «زيادة مساحة 50 متراً مربعاً طابق أرضي على رخصة بلدية، تشييد طابق أول، وصل رخصتَي طابق أرضي، وصل رخصتَي طابق أولى، إشادة شاحط باطون وقرميد بقياسات متعددة، إشادة هنغار مساحة 200 متر…
ولعلّ أخطر ما سمح عثمان لنفسه الموافقة عليه، هو حفر 15 بئراً من أصل الـ 125 مخالفة في قرى زحلة، ضارباً عرض الحائط بدور وزارة الطاقة والمياه ووزارة البيئة والزراعة ومصلحة المياه، فضلاً عن مخططات التنظيم المدني، حارماً الدولة من الرسوم والعائدات المالية التي من المفترض أن تجبيها بدل حفر الآبار. وللعلم، فإن حفر الآبار في البقاع يخضع لعدّة شروط ولدراسات عديدة، وهو أيضاً يرتبط بالاتفاقيات المائية المعقودة مع سوريا لتأثير حفر الآبار العشوائي على حقول المياه الجوفية المشتركة بين البلدين، وعلى أزمة التصحر بالبقاع وحرمان المواطنين الآخرين مع تفاقم أزمة المياه بازدياد الآبار العشوائية.
ومن زحلة إلى البقاع الغربي وراشيا، حيث يحاول المستقبل الحدّ من خسائره الانتخابية وخوض المعركة بوجه الوزير السابق عبد الرحيم مراد بكل ما أوتي من قوّة، استمر عثمان بمسار خرق القوانين والإضرار بالبيئة والثروات وحرمان الدولة من مواردها، مصدراً جدولاً مماثلاً للمخالفات في زحلة في التاريخ ذاته، موجّهاً إلى «العقيد قائد سريّة جب جنين»، يتضمّن 128 مخالفة، من بينها 10 آبار غير شرعية. وتوزّعت مخالفات عثمان على قرى: كوكبا، السلطان يعقوب، لالا، غزة، راشيا، عين حرشا، الرفيد، ضهر الأحمر، حوش الحريمة، كامد اللوز، خربة قنافار، المنصورة، ينطا، المنارة، الصويري، الخيارة، تل دنوب، عيتا الفخار، كفرقوق، العقبة، البيرة، مجدل بلهيص، السلطان يعقوب والدكوة.
أمّا الفضيحة الكبرى، فتمثّلت بجداول مخالفات عثمان في بعلبك ــــ الهرمل، التي يخوض فيها الحريري معركة إرضاء السعودية في مواجهة لائحة المقاومة في البقاع الشمالي متحالفاً مع حزب القوات اللبنانية. إذ أصدر عثمان أيضاً جدولاً موجّهاً إلى «العقيد قائد سرية بعلبك»، يتضمّن 107 مخالفات، بينها 99 بئراً مخالفة، في كارثة بيئية كبرى وتعدٍّ فاقع على موارد الدولة والشعب اللبناني دون وجه حقّ. وتوزّعت مخالفات عثمان على قرى: إيعات، يونين، دير الأحمر، تمنين التحتا، دورس، حي الصلح ــــ بعلبك، مجدلون، نحلة، شعث، بدنايل، قصرنبا، وادي حنا ــ بعلبك، حوش بردى ــــ بعلبك والخضر.
هكذا، ارتأى المدير العام لقوى الأمن الداخلي أن ينصّب نفسه مكان وزارة الموارد ووزارة البيئة ووزارة الزراعة وبدل مصلحة المياه والتنظيم المدني ويقرّر حفر 99 بئراً غير شرعية تهدّد مصادر المياه في منطقة البقاع الشمالي التي عانت من أسوأ الظروف المناخية في السنوات الماضية وتعاني من أزمة تصحّر فاقعة! ألم يحسب عثمان حساباً لأن يولّد الظلم والتمييز إشكالات بين المواطنين والجيران والأقارب؟ واحد لا يستطيع حفر بئر لأنه لا يملك ثمن الرسوم وهو بأمسّ الحاجة إلى المياه، وجاره يحفر بئراً بـ«بلاش» لأن ماكينة تيار المستقبل أوصلت إلى عثمان طلبه مقابل صوته؟ من قال إن مقدرات الدولة والشعب اللبناني وموارده المائية تحديداً رهن البازار الانتخابي؟ هل تحتمل المياه الجوفية في البقاع الشمالي أن تُحفَر 99 بئراً دفعة واحدة بلا تخطيط ولا دراسة ولا تنظيم؟ هل يستأهل المقعد الانتخابي هدر الثروة المائية وموارد الخزينة العامة من الضرائب والرسوم؟
من ملف : دويلة الحريري