أزمات وتباينات من عصر فؤاد شهاب الى عهد الياس سركيس
الجمهورية تواجه عقدة الفراغ والتمثيل
وحروب الثنائيات تحاصرها في كل مكان!!
كان الرئيس سعد الحريري رابط الجأش، بعد سلسلة لقاءات عقدها تباعاً مع نواب تكتل المستقبل، قبل اعلان قراره النهائي، بشأن المرشح ليتبوأ منصب رئاسة الجمهورية المعطل في جحيم الفراغ منذ نيف وعامين وبضعة أشهر.
والرئيس سعد الحريري يحرص على درس مواقفه، قبل اتخاذها، وهو يدرك ان الأمور لا تسنح لاحد في الإرتجال، او في الاقدام على دعسة ناقصة فيما لبنان بحاجة الى دعسة هادئة توصل الجميع الى حلول مرضية، وتقود البلاد الى السلام، وتجنبه الوقوع في أزمات صعبة ومعقدة. خصوصاً بعد القول ان الإنتخابات الرئاسية، مرشحة الحدوث في نهاية الشهر الحالي، او انها ذاهبة الى موعد يصعب التكهن به الآن، لكنه باق هادئاً، يسبر اغوار كل خطوة.
وهذه المواقف جاءت بعد تفاقم الصراع بين الحلفاء حيناً، وبين الأصدقاء أحياناً.
وقبل سفره الى سويسرا حرص الرئيس نبيه بري، على القول أمام زواره، ان لبنان لا تصنعه حرب الثنائيات وقد تقتله صراعات السياسيين حول الرئاسيات، وان الحوار وحده هو السبيل لإنقاذ الوطن مما يحدق به من أخطار.
في حقبة التسعينات توجه الرئيس نبيه بري الى استراليا، في ابرز رحلة له خارج لبنان. لم يكن سهلاً عليه، أن يطير احدى وعشرين ساعة في الأجواء على متن طائرة حديثة حملته مع الوفد المرافق الى كانبيرا والى سيدني ومن ثم الى ميلبورن. وهناك رحب به سيناتور من اصل لبناني، وطلب منه مخاطبة اللبنانيين كما يحلو له ان يخاطبهم. وبناء على طلب السيناتور الاسترالي من أصل لبناني، أحب الرئيس بري أن يرد عليه، لكنه طلب من عضو بارز في الوفد اللبناني ان يتولى الكلام نيابة عنه.
وتولى الخطيب القاء كلمة، لا تتوافق مع سياسة رئيس المجلس النيابي، وتنسجم مع تطلعات المعارضة اللبنانية. وفي اليوم الثاني بادر أصدقاء الرئيس بري الى معاتبة صاحب الكلام، لانه بادر الى انتقاد سياسة رئيس البرلمان القادم الى ابعد بلد في العالم، للتبشير بلبنان الواحد، بعد تجاوز محنة الطائف. يومئذ قيل ان متروبوليت بيروت الياس عودة. زار استراليا واعجب اللبنانيون بكلامه الروحي المستمد في معظمه من الإرادة الواعية لمستقبل لبنان.
وفي اليوم التالي، سأل رئيس المجلس عن الخطيب الذي تكلم نيابة عنه، فقيل له انه اختفى عن الانظار لكنه طلب من مرافقيه أن يبحثوا عنه، وان يأتوا به الى الفندق المقيم فيه.
وذهب المرافقون يبحثون عنه، فيما كان الرئيس بري يردد في مجالسه ان المراجع الفيدرالية اتصلت به، وهنأته على رحابة صدره، وحرصه على ان يصطحب معه من بيروت الى استراليا شخصاً من الصحافة المعارضة له.
ورد الرئيس بري: أنا آت الى بلد تعددي يقيم فيه عشرات اللبنانيين من المؤيدين له والمعارضين، واذا لم يفعل ذلك، لا يكون الوفد المرافق له لبنانياً.
بعد ايام عثروا على الخطيب المعارض وكان في ضيافة المغترب اللبناني أنور حرب، وهو صحافي مرموق في القارة الاسترالية، وعندما شاهده الرئيس بري، عانقه بحضور الجميع، لأنه أكد للعالم البعيد، انه حريص على ديمقراطية لبنان، وعلى اصالة الشعب اللبناني، وأكد للجميع ان للرأي حرمة مقدسة للمعارضة هذا الرأي حرمة مقدسة أيضاً.
تذكر اللبنانيون هذه الواقعة، عندما سمعوا وزيراً في الحكومة، يُندد بالثنائية وتعيد الى لبنان الثنائية التي قيل انها راجت في الاربعينات، بين المسيحيين والمسلمين وأنتجت الميثاق الوطني اللبناني.
طبعاً، استاء وزير الاستاذ نبيه بري، وزير المالية علي حسن خليل، من تحويل معركة رئاسة الجمهورية، الى حرب ثنائيات لأن الوضع حسب رأيه ليس وقت العودة الى الثنائية القديمة.. وقبل اسبوع قال النائب باسم الشاب العضو البارز في ١٤ آذار، ان حرب الثنائيات تعود بخفر وحياء ومعظم الناس يسعون الى تحقيق ما ينبغي تحقيقه لاستقامة الوضع السياسي، وتصحيح الأخطاء فيه ان وُجدت من دون العودة الى طائف ثان، او دوحة جديدة لان المطلوب انقاذ، وطن، لا طائفة معينة في هذا الوطن، كما يقول النائب عاطف مجدلاني.
ويعتقد كثيرون ان فتح معركة رئاسة الجمهورية بهذا الشكل، ينطوي على الكثير من التسرع، وعلى القليل من التعقل.
كانت العودة الثالثة للرئيس سعد الحريري الى بيروت الفرصة المنتظرة لحسم موضوع رئاسة الحمهورية خصوصاً بعد الزحف الشعبي لالتيار الوطني الحر على طريق بعبدا، لصالح العماد عون، اللذي تغيب عن الحضور، وآثر مخاطبة الجماهير من الرابية، عبر شاشة عملاقة.
الا ان العودة الحريرية الجديدة، لم تحسم الموضوع، على الرغم من اجتماعات كتلة تيار المستقبل في بيت الوسط.
ومما زاد الوضع خطورة اعلان الرئيس نبيه بري، او ما نُقل عنه، معارضته الواضحة للرجوع للثنائية بين الطائفتين المارونية والسنية. عبر اجتماع عقد في باريس بين وزير الخارجية جبران باسيل والسيد نادر الحريري، وهو نسيب وقريب من زعيم المستقبل. الامر الذي حمل رئيس البرلمان على التهديد بمعارضته لما حدث في العام ١٩٤٣، يوم اتفق بشارة الخوري ورياض الصلح على تقاسم لبنان والمواقع والوظائف.
ونقل ايضاً عن الرئيس بري انه ذاهب الى مقاطعة النظام، وربما الى النزول الى جلسة آخر الشهر الحالي، وعدم انتخاب العماد عون لرئاسة الجمهورية.
وهذا ما دفع الاستاذ وليد جنبلاط الى ايفاد نجله تيمور وعدد من نوابه الى عين التينة قبل عودته من باريس، وتأييده لسلة الاستاذ قبل الانتخاب. خصوصاً بعد تلويح الاستاذ نبيه بالوقوف ضد الإتفاق المزعوم على انتخاب جنرال الرابية للرئاسة.
وهكذا أصبح الموضوع أكثر خطورة، بعد امتداد الفراغ الى معظم المواقع في الجمهورية، اي رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء. وهذا يعني ان لبنان اصبح مكشوفاً امام الفراغ الشامل..
وانضم السياسيون الى الموفدين الفرنسيين وسواهم بعد زيارات لبلدة بنشعي وللرابية وعين التينة، واجتماعهم الى المرشحين سليمان فرنجيه وميشال عون والرئيس نبيه بري، مخافة انفراط عقد الوطن وهو ينتخب هيئة مكتب المجلس النيابي، في ظل مقاطعة مسيحية واسلامية. لقد كان واضحاً للجميع ان حزب الكتائب اللبنانية والتوافق المعلن بين التيار وحزب القوات اللبنانية يقابله موقف دقيق في الطائفة الشيعية حيث يؤيد حزب الله انتخاب عون للرئاسة، ويعارض أي مساس بسلطة الرئيس بري، كما يعارض كثيرون عدم وضع قانون الإنتخابات النيابية، في مقدمة المشاريع المحالة الى المجلس النيابي.
وعلى الرغم من الدورا لذي مثله النائب جورج عدوان لرأب الصدع السياسي وبقاء النائب انطوان زهرا متصلباً في موضوع ادراج قانون الانتخابات في مقدمة اي بحث سياسي حول مستقبل النظام.
ويقول وزير الداخلية نهاد المشنوق، ان القادة السياسيين لن يسمحوا بانهيار البلد، وان تجاهلوا أحياناً ازمات تهدد بمزيد من الأزمات في النظام.
الا ان الرئيس سعد الحريري راح يردد ان المطلوب هو انقاذ النظام لا انقاذ مرشح لرئاسة النظام، معارضاً في الوقت نفسه، العودة الى الثنائيات بين الطوائف.
ويبدو ان العالم يَنْفض ايديه من المشاكل اللبنانية، ويدعو الى التوافق، خصوصاً بعد تجدد الازمات بين الدول العربية، ولا سيما في اليمن التي لم تعد سعيدة بارتفاع نسبة القتلى والجرحى، والإمعان في الصراع بين ايران واميركا وروسيا وسوريا. ولا بد من عودة الحياة الى الإتفاق الدولي بين أميركا وروسيا على حل، يعززه اصرار الرئيس الاميركي باراك أوباما، قبل انتهاء ولايته الثانية والأخيرة، وحرص الرئيس الروسي بوتين على عدم سقوط الجميع في وهاد الكوارث الدولية والعجز عن الانقاذ من حروب تتفاقم ولا تزول بسرعة.
هذه الامور الدقيقة تحدث الآن تباعاً، بعد انهيار انظمة عربية اساسية من تونس الى مصر وليبيا، ورحيل الرئيس بن علي عن السلطة في تونس، مثل رحيل حسني مبارك ومعمر القذافي. والخلاصة ان غياب الديمقراطية في العالم العربي، كرس وجود انظمة غير ديمقراطية في معظم العواصم العربية.
الا ان لبنان يحمل أفكاراً صعبة، تنطوي على اصرار دولي واقليمي على الوقوف في وجه العاصفة التي تهب عليه من كل حدب وصوب، لكنها تزرع الامل في الإنفراج. ولا سيما بعد كبح جماح العبث بالمصالح الحيوية للبلاد، على نحو يستوعب الازمات التي حدث مثيل لها في لبنان، على عهد الرئيس الياس سركيس، وفق النهج الذي أرسى قواعده الرئيس فؤاد شهاب.
الا ان بري انجز انتخابات هيئة المجلس، قبل ان يطير على متن طائرة خاصة الى برن وجنيف، لكنه حذر بعنف السياسيين واللبنانيين من الوقوع في حروب الثنائيات والرئاسيات.
لكنه قال بتؤدة ان كتلتي النيابية لن تصوت للعماد ميشال عون، وهذا يعني ان التوافق على ترشيحه لن يتمّ بسهولة، وان جبهة معارضة ستقف ضده قوامها نصف نواب طرابلس برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، وعدد لا يُستهان به من نواب كتلة المستقبل.
وفي رأي رئيس البرلمان، ان انتقاله من ساحة النجمة الى المعارضة يعني تعذر تأليف حكومة توافقية في عصر الجنرال، ويعني ايضاً ان لبنان كان في أزمة الفراغ الرئاسي، وقد يصبح في أزمة فراغ تشمل السلطة بكاملها.
هل يفتح الصراع على رئاسة الجمهورية، باب الخلافات الصعبة، في البلاد؟
وهل يكون هذا الصراع، مدخلاً الى البحث عن المرشح الثالث، كما كان يحدث قبل نحو ٣٥ عاماً، خصوصاً بين الرئيس كميل شمعون في قصر القنطاري والرئيس فؤاد شهاب المقيم بين جونيه وعجلتون، ولاحقاً بين عاصمة كسروان وبلدة صربا، التي تحولت في العصر الشهابي الى مقر لرئاسة الجمهورية.
والسؤال الذي شغل الناس في نهاية حقبة الخمسينات، كيف كانت العلاقة بين الرئيس شمعون وقائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب. وهل تتكرر الآن بين عون وقهوجي.
وفي حقبة الخمسينات زار عدد من الضباط الرئيس شمعون وطالبوه باتخاذ قرار يعززا السلطة المدنية على حساب قيادة الجيش. الا ان الرئيس شمعون رفض الفكرة على الرغم من حماسة الرئيس سامي الصلح لها.
وحدث ان دخل الدكتور البير مخيبر على الرئيس شمعون وقال له ان القضية قضية مسؤولية لا قضية مواقف عابرة وليس باستطاعة الرئيس سامي الصلح، بصفته وزيراً للدفاع حل تلك المسؤولية.
الا ان الرئيس شمعون، كان جوابه الرفض، كما كان موقف الولايات المتحدة من الرئيس فؤاد شهاب، غامضاً.
الواضح ان واشنطن لم تكن متحمسة في البداية للواء فؤاد شهاب، كرئيس مقبل للبنان، ولعل تلك الواقعة تلقي الضوء على الموقف الأميركي بهذا الشأن.
وعندما نزلت القوات الأميركية على شاطئ خلدة، بعد الإنقلاب العسكري في بغداد بقيادة عبد الكريم قاسم، ضد نوري السعيد اصبح اسم فؤاد شهاب مطروحاً كريس محتمل للجمهورية.
الا ان السفير الأميركي ماكلينتوك ظل معتصماً بالرفض، حتى اعلان الرئيس جمال عبد الناصر موافقته على الرئيس شهاب.
من كان يريد الأميركان في الرئاسة الأولى.
في آب من العام ١٩٥٨ توجه السفير الأميركي مع روبرت مورفي، موفد واشنطن الى لبنان، فتبين ان العميد ريمون اده يريد ذلك، الا انه كان يرفض الإتيان بجنرال عسكري الى رئاسة الجمهورية، اعتقاداً منه ان لاحداث العام ١٩٥٨ مذكرات متبادلة بين الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور ورئيس الوزراء السوفياتي نيكتا خروشوف لمعرفة حقيقة الصراع والتوافق بين اميركا والاتحاد السوفياتي السابق من أحداث ١٩٥٨.
الا ان الجنرال شارل ديغول رئيس وزراء فرنسا في ذلك الوقت دعا الى وجوب عقد اجتماع لرؤساء الحكومات الأوروبية، تداركاً للأسوآ.
وفي الأول من آب ١٩٥٨، اتفق الاميركان والسوفيات على تدابير تنقذ العالم من صراع دولي قد يقود الى حرب عالمية.
ماذا عن لبنان في تلك الحقبة؟
وهو الدور الذي اضطلع به الرئيس العربي جمال عبد الناصر.
ويقول الرئيس الشهيد رشيد كرامي ان اللبنانيين لمسوا في مختلف المناسبات ان الرئيس عبد الناصر كان يغار على لبنان وسيادته وانه كان يردد بأن أمن لبنان من أمن الدول المحيطة به.
ويرى المرجع السياسي سامي الصلح، انه لا شك في انه كان لثورة ١٩٥٨، ابعاد سياسية، لأن القضية الاجتماعية طرحت للمرة الأولى على صعيد السياسة العامة، فحاول فؤاد شهاب الاجابة على مضامين القضية الأجتماعية، مسبقاً.
وعلى الرغم من تركيز سياسة الرئيس شهاب على سلطته الشعبية والى الأحزاب التقدمية أو اليسارية، فقد كان رجل عصرنة النظام وتقوية الحكم كأداة تستطيع ان تتفهم الأفكار الشهابية وما يرافقها من مشاريع.
أما عهد شارل حلو فقد تميّز بالعودة الى الاستكانة التقليدية، أي الى هذا اللون من الليبرالية السياسية.
أما في السياسة فقد ظل الوضع يتأرجح بين الاستناد الى سلطة الشعبة الثانية وسلطة الدولة والحرص على الديمقراطية.
ويبدو ان عهد الرئيس الياس سركيس حقق نتائج باهرة مع الوزير فؤاد بطرس، لتطوير مفاهيم السلطة ويتذكر اللبنانيون عصر الياس سركيس ويتذكرون أيضاً اختياره رصانة فؤاد بطرس لاكمال المشوار السياسي، ولا سيما بعد تعيينه حاكماً لمصرف لبنان قبل ارتقائه سدة الرئاسة الاولى.
كان فؤاد بطرس يؤكد أن فؤاد شهاب استطاع بوجود الياس سركيس الى جانبه إدارياً وسياسياً أن يتجه بالدولة الى الحداثة. وهو دفع برصيده السياسي الى اقناع رشيد كرامي وسواه، بان الياس سركيس سيكون فؤاد شهاب الثاني على رأس السلطة.
وفي آخر ايامه، أدرك الياس سركيس في باريس، وبعد عودته الى لبنان، ان فؤاد شهاب رسخ في الحياة السياسية مبادىء النزاهة والصرامة في تطوير المبادىء التي أسسها فؤاد شهاب، وتابعها من بعده.