أبعد من الوصفات والمفاوضات
في لحظة بالغة الصعوبة في حياة النظام السياسي والمصرفي والمالي في لبنان، يطرح السؤال على نحو أشدّ خطورة: هل اقترب لبنان من المشهد اليوناني؟ بمعنى هل بات هذا البلد، الذي فاق سواه من بلدان صغيرة أو كبيرة، متوسطية أو لاتينية (نسبة إلى أميركا اللاتينية) أو حتى أفريقية بالأوصاف الذي أطلقت على رجال الحكم فيه، ورجال المصارف، من أصحاب رؤوس الأموال، إلى الصيارفة الصغار، وسواهم، من فساد وجشع، وانانية، وانعدام للوطنية، التي تقترب من حدود الخيانة، والتي تستدعي عقوبات من النفي والإعدام، وسحب الجنسية والمحاكمة السريعة، ولكن العادلة، بهذا المعنى هل اندفع البلد إلى هاوية القبول بوصاية صندوق النقد الدولي، على ان ينضم إلى هذه الوصاية الاتحاد الأوروبي، راعي مؤتمر سيدر «الباريسي» الشهير، إضافة إلى المصرف المركزي الأوروبي، أو مصارف دولية أخرى، فضلاً عن شركات عالمية، في التدقيق المالي والحسابات، وما شاكل؟!
على انه، وقبل الخوض، في الإجابة عن هذا السؤال المريع، والخطير، والمعقد في آن واحد، من المستحسن التوقف عند إدارة خاطئة لملف غزو فيروس كورونا «للأجواء اللبنانية» عبر مطار بيروت الدولي، ومن بلد آسيوي، يرجح ان يكون إيران، وربما من سواه، إذا أثقلت المعالجة بالبيانات، والمؤتمرات الصحفية، وطلب من الإعلام، ان يتحمّل جزءاً من المشكلة، تماماً مثلما هو السعي لتحميل المودع اللبناني في المصارف العاملة، جزءاً من المعالجة، عبر استنبات قوانين، تسمح بعملية الـ(Hair Cut) أي إقتطاع نسبة من الأموال لمصلحة اما تعويم مالية المصارف أو لمعالجة الديون السيادية الخطيرة..
من المعروف، طبياً ان «الأنفلونزا» تنتشر على هيئة وباء، وتعتبر العدوى الفيروسية للجهاز التنفسي، إذ إن الوباء الجديد «كورونا» غايته القصوى ان يستوطن في الرئتين، وهو من أشد الأمراض المعدية انتشاراً، وفصل الشتاء هذا بيئته المفضلة..
ويدلّ السجل التاريخي لنشأة الأنفلونزا، وانتشارها العالمي منذ العام 1918 إلى العام 1977، إلى ان فيروس H1N1 مجهول المصدر، ويحتمل أن يكون أميركياً، وهو ما يعرف بالانفلونزا الاسبانية، اما الانفلونزا الآسيوية (1957) أو فيروس H2N2 فهو بدأ في الصين، وفيروس H3N3 بدأ في هونغ كونغ جنوب شرق الصين (1968) إلى انفلونزا الخنازير (1976) التي بدأت في التجمعات العسكرية في أميركا في قلعة ديكس، وصولاً إلى الانفلونزا الروسية (1977)، والتي تحمل أيضاً اسم H1N1، وبدأت من شمال الصين..
ولعلَّ النقطة الأهم في نظام عمل هذا الوباء، هي سرعة الإنتشار، والفتك القاتل بالخلايا، إذ قتلت الانفلونزا ملايين البشر في تاريخها الموبوء على مدى قرن كامل، فضلاً عن الكشف عن عجز «جهاز المناعة» لدى الكائنات الحيّة، في مواجهة هجماته، تحت تأثير المدنية في عصر العولمة، وما بعدها، وغذاء مطاعم الفاست فود (Fast foods)، وسواها من أنظمة الانحلال أو الكسب السريع..
وإذا كان من المستحسن كذلك، أو عدمه، إسقاط مفهوم «الانفلونزا» أو الكورونا (التسمية الحالية لهذا الوباء الفيروسي، المبيد)، على طبقة الحكام والطبقة المالية في لبنان، نظراً لأوجه التشابه، لجهة نقاط ثلاث:
1- تعميم انتشار الوباء بالسرعة القصوى.
2 – فقدان جهاز المناعة، لمواجهة مفاجآت من نوع الواقع، الذي يغيّر المعادلات القائمة أو «النبأ العظيم»..
3 – انعدام صفة الوطنية.. فالأوبئة الفيروسية تخرج من مواطنها الأصلية إلى بلدان أخرى، مستفيدة من أنظمة «العولمة» في الاتصالات، والتجارة، والانتقال، والإكتظاظ السكاني وغيرها، لتصيب بشر في اقطار نائية، وبعيدة، عبر آلاف الكيلومترات.
والأبرز، في هذه النقاط، ما هو مشترك لجهة انعدام الوطنية بين الفيروسات القاتلة، وطبقة الحكام، والطبقة المالية في لبنان، التي تمكنت من هذا البلد الآمن، بعد وقف الحرب، وراحت تعد العدَّة، لابتلاعه، بأمواله، وماله، ومياهه، وبحره، وسواحله وجباله..
ولعلَّ التسمية، التي تليق، على هذا النحو أو ذاك، بتلك «الطبقة الملعونة»، ما يسميه ثوار المصارف، من فتيان وفتيات، ورجال ونساء، بعضهم، لم يقرأ عن الثورة، لا مقطع، ولا حتى مقطعين، ومع ذلك، فهم ثوار، وطنيون، أحرار، من أبناء مدن لبنان الآمنة، الذي يُطلق عليه «البلد الطيب»، «الأوليغارشية» أو النظام الاوليغاركي، فما هو هذا النظام؟ (النظام الأوليغاركي أو الأوليغارشي، هو ما يسميه أفلاطون، صاحب التسمية الاولى: «قدر الرجال بثروتهم، فيحتكر الأغنياء الحكم، وليس للفقير فيه حظ ما».
يضيف أفلاطون: أن أرباب تلك الأموال اكتشفوا طرقاً للإنفاق، فنبذوا الشرائع، وداسوا أحكامها، هم وأزواجهم.. (تأمل في المشهد اللبناني: هم وازواجهم؟!) وهم يراقبون بعضهم بعين الغيرة.. ويتهافتون على حشد المال، ومتى علا قدر الثروة والمثرين في دولة بخست الفضيلة والفضلاء أقدارهم.. وهم يحظرون الاشتغال بالحكم على من لا يملك مبلغاً معيناً من المال..
يضيف افلاطون مخاطباً محاوره: تأمّل ماذا تكون النتيجة إذا انتقينا ربابنة السفن باعتبار ثروتهم، دون جدارتهم الفنية، ورفضنا ذا الجدارة في الملاحة لفقره..
وماذا يترتب من نتائج ايضاً: تخسر مدينة كهذه وحدتها، وتصير اثنتين: الواحدة مؤلفة من الفقراء، والأخرى من الأغنياء.. والفريقان ساكنان معاً، يكيد أحدهما للآخر..
فواضح، متى رأيت متسولين في مدينة تعلم انه يكمن فيها لصوص، ونشالون وسارقو هياكل. وكل الأهالي عدا الحكم، متسولون، في مدن الحكم الأوليغاركي! (والاقتباس بتصرف من افلاطون)..
إذا كانت اثينا، هذه حالها أيام افلاطون، قبل أكثر من 2300 سنة، وإذا كانت حال اليونان الحالية شبيهة بحال لبنان.. فالمشاهد، مساء كل سبت، وفي بحر الأسبوع، وقبل 17ت2 الماضي، تظهر التسوُّل العام على أبواب المصارف، وهجوم الأوليغارشيين في السلطة والمصارف على هؤلاء المتسولين لإخفاء الجريمة: سرقة المال، وتدمير الأحوال، ومحاولة خنق السؤال..
من فقدان المناعة، إلى فقدان الخلفية العامة، إلى انعدام الوطنية، إلى سائر الصفات التي كشفتها الأشهر الثلاثة ونصف الماضية، يصبح السؤال التالي مشروعاً: هل يُمكن لنظام اوليغارشي، غير وطني، ان ينقذ بلداً، أو وطناً من الإنهيار؟
بداية، لا بدَّ من الإشارة، إلى ان النظام الاوليغارشي اللبناني، الذي اختار حكومة، بعدما توعد الشارع بقوة الحديد والنار، (عندما أطلق العنان لعصاباته لمطاردة رجال الانتفاضة في الشوارع والأزقة، وفي الليل كما في النهار)، يسعى إلى إنقاذ سمعته، التي صدحت حناجر المحتجين، من وسط العاصمة إلى ساحات المدن (عواصم الأقضية والمحافظات) تتهم هؤلاء، باللصوصية، والسرقة، والخيانة، وأكل الحقوق، والإطاحة بكل ما هو أخلاق وانساني، أو حقوقي)..
فمن أين يبدأ الإنقاذ؟
– هل يبدأ من إعادة تعويم النظام المصرفي، وتحسين رأسمال المصارف؟
– هل يبدأ من دفع استحقاقات الديون السيادية، والمقدرة بأكثر من أربعة مليارات دولار، من آذار إلى تموز، أو من عدم دفعها؟ أو من جدولتها؟
– هل يبدأ عبر الإستعانة بـ«صندوق النقد الدولي» ووصفاته الجهنمية، عندما فرض على اليونان أيام باباندريو (رئيس الحكومة المنتخب عام 2009) برنامج تقشف لم تعرفه تلك البلاد أيام الحكم الديكتاتوري (1974). وتضمن (أي البرنامج):
– خفض الإنفاق بنسبة 10٪.
– زيادة سن التقاعد عامين.
– تقليص الانفاق على النظام الصحي..
– زيادة معدلات الضريبية.
– تخفيض دخول العاملين في القطاع العام، وتسريح أكبر عدد ممكن من العاملين لدى الدولة.
كان الوصفة هذه، هي الخيار المناسب لتجنب إعلان الدولة افلاسها..
المشهد إياه، يتكرر في لبنان، بالتزامن مع المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، وبعثته، التي استمعت إلى أصوات (الثوار) في الشارع قبالة السان جورج، في منطقة الفنادق الفخمة، التي تكاد تقف على أطلال ماضٍ تليد، كانت وكالات التصنيف الدولي من «موديز» إلى «ستاندر اند بورز»، إذ عمدت الأولى إلى خفض تصنيف حكومة لبنان إلى CA من CAA2، مع نظرة مستقبلية مستقرة، أي إلى نقطة تسبق بلوغ حافة الإفلاس!
بانتظار، ما بعد مغادرة بعثة الصندوق، وانكشاف ما تمّ الاتفاق عليه، فإن أمام الحكومة اللبنانية مهلة زمنية، قد تصل إلى منتصف آذار، للقيام بإعلان الموافقة على الخطة المتفاهم عليها مع البعثة الدولية، والتي توازن ما بين دفع أو تأجيل سندات اليوروبوندز أو هيكلة أو جدولة الدين العام..
وأبعد من الوصفة، أو سلّة الخيارات.. يبقى السؤال الملح الدائم؟ من أين يبدأ الإنقاذ: من أموال المودعين، أو مصير السندات، أو النظام الاوليغاريشي السياسي – المالي، الموسوم بالخيانة الوطنية الشاملة؟!