باتَ لبنان اليوم مقسّماً إلى ثلاثة أجزاء، ثلاثة اقتصادات، ثلاثة شعوب، «ثلاث طبقات»، ينظرون إلى لبنان بثلاثة طرق مختلفة.
الجزء الأول يضم اللبنانيين الذين استطاعوا أن يواجهوا الأزمة والإنهيار، وقد تأقلموا وتعايشوا مع الواقع الجديد. هؤلاء هم الذين يستطيعون تأمين بعض الدولارات الفريش من الخارج. هم أيضاً الذين حالفهم الحظ وسدّدوا ديونهم بأسعار متدنّية، حيث تبخّرت كلفة فوائدهم، ولا يزالون مُنتجين. هذا القسم يقبل لبنان مع كل علاّته، وقد استطاع إعادة بناء استقرار معيّن، وتوازناً في مداخيله، وبنسبة عيشه، وأعماله وتطويرها.
وفي الخانة نفسها، هناك المغتربون اللبنانيون الذين خسروا أموالاً كبيرة من ودائعهم في لبنان، لكن حبّهم للوطن الأم لا يزال قائماً، كما حبّهم للعائلة، ولا يزالون يتردّدون على لبنان، ويصرفون بعض مدّخراتهم، وقد حافظوا على نسبة عَيش مقبولة، لأن مداخيلهم من الخارج. هؤلاء ينظرون إلى لبنان بأنه مَصيَف، وأرضية للعطل والسهر، وجودة الحياة، وأوقات ممتعة مع الأصدقاء والعائلة. لا شك في أن هؤلاء قد خسروا ودائعهم، لكنهم استطاعوا إعادة بناء أنفسهم من جديد في الخارج.
أما الجزء الثاني فهو ما سنلقّبه بـ»الأغنياء الجدد»، الذين استفادوا من الأزمة بطريقة مباشرة وغير شرعية، وهم أركان الإقتصاد الأسود الجديد، المكوّنين من المهرّبين، والمروّجين والمبيّضين، وحيتان الصيرفة، والسوق السوداء، الذين يتلاعبون بحياة اللبنانيين ومصيرهم، ويستفيدون من الخسائر، كي يُحقّقوا أرباحهم الطائلة، هؤلاء يتلاعبون بأسعار الصرف، وفي السوق السوداء الغامض، ويبنون قصورهم من الإقتصاد الكاش، في ظل غياب أيّ شفافية وحَوكمة، ويضربون يومياً بما تبقّى من الثقة المحلية، الإقليمية والدولية، ويشكلون خطراً كبيراً على كل البلاد جرّاء عقوبات صارمة يُمكن أن تلحق بنا. هذه الطبقة تَتأسّس وتولَد في الحروب والأزمات، فما نعيشه اليوم من حرب إقتصادية وإجتماعية أنتجَت هذه الطبقة التي تنظر إلى لبنان كـ»بقرة حلوب» أو بالأحرى «عندما تقع البقرة يكثر جلاّدوها».
أما الطبقة الثالثة فهي مكوّنة من أكثرية الشعب، المنهوب والمذلول، والمكسور، والمسروق، والمشلول، الذي سُرقت أمواله وانهارت نسبة عيشه، ودُمّرت ذاتياً حياته، وخسر نهائياً قدرته الشرائية، حتى السلع الإنسانية والمعيشية، وأُجبروا على التسوّل لتأمين أقل إحتياجاتهم المعيشية. فهذه الخانة تضم كبار السنّ والمتقاعدين، غير المنتجين، والمودعين الذين لا يستطيعون إعادة بناء أنفسهم وشركاتهم، وبعض الموظفين الذين لا يستطيعون تحويل مداخيلهم إلى الفريش، وأكثرية الذين كانوا يعملون في الإقتصاد الأبيض، الذين دُمّروا ذاتياً لمصلحة الإقتصاد الأسود النامي. هؤلاء ينظرون إلى لبنان كسجن كبير، ويرون أنفسهم رهينة هذا النظام الفاسد، وليس لهم ثقة، بالحكّام ولا بالمستقبل، وقد خسروا أيضاً عزيمتهم، وإرادتهم، وديناميكيتهم، وهم كالسجناء المُحبطين، والمكتئبين. وهم يشكلون ثلثي الشعب اللبناني المهزوم والمقهور.
في المحصّلة، لن نتحدّث عن طبقات، لكن عن شعوب مختلفة في وطنٍ واحد، وطن تحت سيطرة مسؤولين وأحزاب طعنوا الأكثرية مرات عدة، ويتابعون جريمتهم من دون تحمّل أيّ مسؤولية، ومن دون أي مبالاة. لقد بنوا طبقة الأغنياء الجدد الذين يستفيدون من خسائر الشعب، ويبنون حياة وهمية، على حساب الشعب الآخر المنهوب.