Site icon IMLebanon

أزمة حكم أم أزمة ممارسة السلطة

في ضوء الاجتماعات الأخيرة لهيئة الحوار الوطني التي تناولت بعض مضامين اتفاق الطائف، لا بدّ من سؤال: هل في استكمال تنفيذ الطائف الحل المطلوب للخروج من أزمة الحكم والنظام في لبنان؟ الدواء الشافي، أي اتفاق الطائف، تم انتهاكه أو تجاوزه مرارا وتكرارا. هذا مع العلم أن الجزء الأساس من وثيقة الوفاق الوطني أصبح دستور البلاد منذ العام 1990.

الدستور المعدل على أساس الطائف لاقى المصير نفسه من الانتهاك والتغييب، والقوانين تتم مخالفتها جهرا، بلا ترّدد أو حياء. ملفات فساد بالجملة، من النفايات والإنترنت والميكانيك وسواها، لم تعد تعني المسؤولين، ولا تحّرك سوى قلة من الناس على رغم الحراك الشعبي الهادف والمتواصل.

في الدول الديموقراطية التي تُعدَّل فيها الدساتير بهدف الإصلاح أو لإيجاد حلول لأزمات معينة، يؤخذ التعديل على محمل الجدّ لأن الدستور النافذ قبل التعديل يلتزم به الجميع، في السلطة وخارجها، ولأن الدستور المعدل ستكون له مفاعيل قانونية وسياسية ومعنوية، وهو بالتالي قابل للتنفيذ ويتم التعامل معه على هذا الأساس.

أما في لبنان فالاحتكام إلى الدستور غالبا ما يكون موسميا، يلجأ إليه المتخاصمون اضطراريا، والقوانين نافذة وقد تعتريها الشوائب، إلا أن طريقة تعاطي الدولة وأركانها تجعل منها عبئا على أهل السلطة من أصحاب المصالح الكبرى. فما الجدوى إذا من إصلاح النظام، بينما المطلوب أيضا تغيير سلوك الحكام والمحكومين. لذلك، فإن وضع حدّ لنظام الزبائنية، الذي بات بمثابة العرف المقَونَن، قد يكون المدخل للإصلاح على رغم «الحماية» التي يؤمنها النظام الطوائفي.

الرئيس فؤاد شهاب، باني مؤسسات الدولة الحديثة، لم يُلغِِ الطائفية ولا الممارسات المرتبطة بها، بل جاء بالأكفأ والأنزه إلى الإدارة العامة ومن كل الطوائف، وكان المثل والمثال في سلوكه وأدائه على رأس الهرم.

لعل أبرز جوانب الصراع على السلطة في لبنان ما بعد الوصاية محورها المحاصصة في مغانم السلطة. إنها حلقة متكاملة ومحصّنة، ومفاتيح الحلول ليست حصرا في الدستور أو في استكمال تنفيذ ما تم تعليقه من بنود إصلاحية في اتفاق الطائف. ففي حال أُقِرَّ مجلس الشيوخ، على سبيل المثال لا الحصر، فماذا سيغير في سلوك المعنيين بأزمة الحكم، أو في ما يخص التقيد بالقوانين والحدّ من الفساد ومعالجة الأزمات الملحّة؟ وهل سيتم الالتزام بقراراته ما دام الالتزام غير مؤمّن في مسائل أخرى؟

ليس المقصود من هذا الكلام التقليل من أهمية الدستور والإصلاحات المطلوبة، ولا من التسويات التي ساهمت في إيجاد قواسم مشتركة بين اللبنانيين، بل المقصود تسليط الضوء على مكامن الخلل التي تتجاوز أزمة الحكم والنص الدستوري وأزمات المنطقة وسياسات الدول الكبرى. «السلّة» التي اقترحها الرئيس نبيه بري تشكل خارطة طريق واقعية لإيجاد تسوية تحفظ الحقوق وتراعي الهواجس. إلا أن العبرة في التنفيذ وليس في «السلة»، هذا في حال تم التوافق على مضمونها.

غالبا ما يُزج المؤتمر التأسيسي في النقاش العام للتهويل. المؤتمر التأسيسي الأخير في الطائف منذ نحو ربع قرن جاء على حساب السيادة، تبعه مؤتمر «نصف تأسيسي» في الدوحة، جاء على حساب الدستور. وتم إنشاء مؤسسات جديدة بعد الطائف، انطلقت بزخم، وهي الآن إما معطلة او أسيرة المحاصصة السياسية، أبرزها المجلس الدستوري، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني للإعلام. كما أن تعطيل المؤسسات الرقابية ليس مرتبطا بالأزمات الداخلية المستجدة ولا طبعا بالتطورات الإقليمية والدولية.

اندلعت الحرب في منتصف السبعينيات وعكست الانقسام حول مسائل عديدة، منها هوية لبنان التي باتت اليوم عربية بالكامل، بحسب مقدمة الدستور، مضافا إليها نهائية الوطن. لكن كيف ساهمت الهوية الوطنية ونهائية الكيان في إبعاد أزمة الحكم وفي إنتاج إدارة سليمة لشؤون الناس؟

بعد الاستقلال في 1943 انطلق مشروع بناء الدولة ومؤسساتها. وبعد الطائف جرى تعطيل المؤسسات التي كانت أَجهزت عليها القوى المسيطرة في زمن الحرب. وفي مرحلة ما بعد الوصاية محاولة إعادة تأسيس متعثرة تعكس التحولات في موازين القوى داخل لبنان وفي محيطه الإقليمي.

أركان ثلاثة ترسم معالم الواقع السياسي في لبنان: النظام السياسي وركيزته الدستور والقوانين، المجتمع بمكوناته السياسية والطائفية والمذهبية، وممارسة السلطة. وعلى المستويات الثلاثة قصور مقلق. القوانين مغيبة والمجتمع منقسم والممارسة مأزومة.