يعيش العالم حالة افتقاد مريع للمعايير في وزن الأشياء. في لحظة ترى الأمور عادت للمواجهة بين روسيا والغرب ومن بوابة اوكرانيا والقرم، وفي لحظة ثانية تستعيد الاسلاموفوبيا وهجها، ويبدو أنّها مرشحة للذهاب أبعد، سواء في مجرى السباق الرئاسي في الولايات المتحدة، أو بعد المؤشر الاقتراعي المرتفع للجبهة الوطنية في فرنسا. في وقت سابق، كان هناك من يجمع بين تصلّب غربي تجاه روسيا وتجاه العالم الاسلامي في وقت واحد. اليوم، الاسلاموفوب الغربيون يظهرون ميلاً محابياً لروسيا ويتعاملون معها كقدوة في مواجهة الارهاب الجهادي.
في بلد يفتقد بشكل مزمن للمعايير كلبنان، يأتي هذا الضياع للمعايير على الصعيد العالمي ليزيد الطين بلة، ولا ننسى بين المستويين التخبط الاقليمي في المعايير ايضاً. صحيح ان المعايير اعيد اليها الاعتبار مع ثورة الارز من ناحية، والربيع العربي وخصوصاً الثورة السورية من ناحية ثانية، الا انه جرى تجفيف هذه المعيارية سنة بعد سنة، وجاء خطاب مكافحة الارهاب وتعميمه في كل ارض وفوق كل سياق، ليفرض منطقاً آخر.
هيمنة خطاب «مكافحة الارهاب» تظهر بشكل مخادع ان ثمة معياراً واحداً وكونياً، لكنها بالكاد تخفي واقعاً شديد التقلّب وبشكل عشوائي بين المعايير المعتمدة.
في غياب المعايير (النورم) يصير القانون تحايلاً على القانون، ويسهل التلاعب بالأسس الدستورية، وتعطيلها أنى دعت الحاجة واعادة الاهتمام بها بحسب الحاجة ايضاً. في غياب المعايير تصير السياسة نوبات احتقان ثم انفراجاً ثم احتقاناً، وتحل الانفعالية بدل مقابلة الحجة بالحجة، ومناقشة الطرح بالطرح، والاستفسار عن العواقب وكيفية التحسب لها.
يعيش البلد منذ عقود طويلة أزمة معايير من فوق عناوين أزمته الشاملة الاخرى. ترشيد النقاش السياسي باتجاه العناوين السيادية قبل عشر سنوات ساهم في انتعاشة «معيارية» عادت فتشظت او فسدت من فرط اجترارها لتبرير ما لا يبرّر.
لكن البلد يعيش ازمة تخلّع المعايير بشكل اكثر جسامة منذ اتفاق اركان الحياة السياسية فيه على عدم العودة الى القانون الانتخابي السابق وامتناع اتفاقها في الوقت نفسه على بديل له، وجاء الشغور الرئاسي ليعمّق هذا الافتقاد للمعايير. نواب يستفيدون من ان لا نص دستورياً يعاقبهم مباشرة اذا هم لم ينتخبوا الرئيس، مع وجود ما يكفي دستورياً لاعتبار انتخابهم الرئيس واجباً وليس خياراً لهم اعتماده او لا. فراغ دستوري يستشري لعام ونصف العام. وطيلة هذه المدة والى اليوم لا ينطلق النقاش السياسي من محاولة تشكيل قاعدة مشتركة للمعايير التي يمكن على اساسها وضع حد للشغور، ولا من المعايير التي يمكن على اساسها مناقشة العلاقات بين الطوائف وبين ما هو طائفي وبين ما هو غير طائفي، وبين ما هو داخلي وبين ما هو اقليمي.
الخروج من ازمة تخلّع المعايير يكون بربط المعايير بعضها ببعض بشكل منطقي ومنسجم. مثلا، المعيار في حل مشكلة الشغور الرئاسي ينبغي ان يكون كيفية الخروج من تعطيل المؤسسات الدستورية والعود الى احترام المواقيت الدستورية. كيف لا يكون ممكناً ان يتجدد الشغور الرئاسي مرة ثانية، هذا هو السؤال الذي لا يمكن التهرب من طرحه.
حل مشكلة قانون الانتخاب يكون هو الآخر معيارياً أو لا يكون. «قانون انتخابي عصري» تلك المعزوفة التي يتداولها الجميع لا تؤسس لوضوح في المعايير. صحة التمثيل بحد ذاتها ليست «معيارياً«. تمثيل من؟ هو السؤال. معيار «تمثيل التنوع» الذي يتشكل منه الاجتماع اللبناني يختلف عن معيار «تمثيل المشترك».
اذا كان الساسة غير معنيين بشكل وثيق بسؤال المعايير، لا يمكن المثقفون السياسيون ان يستمروا في تهميش مسألة المعايير وتخلّعها والحاجة الى اعادة بلورتها. بدلاً من الانقياد وراء التبريرية من ناحية، والانفعالية من ناحية، حري بالمثقفين السياسيين في البلد تحويل النقاش قدر الامكان الى نقطة الانطلاق الضرورية: البحث عن معايير. فإما «المعياريون» .. وإما «العيارون» في هذا البلد.