الوضع أكبر بكثير وأخطر بكثير مما يتصوّره البعض ويُشخِّصه البعض الآخر.
لبنان منذ وُلِد مَرَّ بمحطات في التاريخ، وفي كلِّ محطة كانت له وظيفة، هو بعكس كل البلدان، لم تكن له وظيفة واحدة على مرِّ العصور.
ما لنا وللتاريخ الآن، لنُركِّز على الحاضر وعلى المستقبل إنطلاقاً من التاريخ المعاصر القريب جداً.
منذ خمسينيات القرن الماضي كان لبنان مستشفى الشرق الأوسط وإعلام الشرق الأوسط وسياحة الشرق الأوسط ومصرف الشرق الأوسط ومطبخ الشرق الأوسط ومطبعة الشرق الأوسط، ومنبر الشرق الأوسط، والمركَز الذي تُصهَر فيه الأفكار والعقائد.
لم يكن هناك من بلد يشبهه، المُحبُّون أُعجبوا به وتمنوا له الخير، والحاسدون والحاقدون فعلوا المستحيل لتنتفي عنه كل هذه الأدوار والوظائف.
***
إندلعت الحرب وتوالت الحروب. عاندَ لبنان واللبنانيون ليبقوا على هذه الأدوار، لكن الدنيا لا تتوقَّف. الحرب أوقفتنا إلى حين وأرغمتنا على التراجع أحياناً أخرى. كانت كلما توقفت حربٌ، او بالأصح تحققت هدنة، نتطلَّع حولنا فنجد أنَّ الدول التي كان لبنان مقصدها، صارت مقصداً للبنانيين:
انتعشت دول الخليج، انتعشت قبرص، تحسَّنت تركيا… فيما نحن نتراجع. إكتشفنا أننا لم نكن نبني وطناً فيما الآخرون يبنون دولاً:
كنا نبني مستشفى وليس دولة.
كنا نبني جامعة وليس دولة.
كنا نبني فندقاً وليس دولة.
كنا نبني مقهى وليس دولة.
كنا نبني مصرفاً وليس دولة.
ما بنيناه كان عظيماً، ولكن إذا لم يكن له سقفٌ يحميه يبقى مشرَّعاً أمام العواصف التي تهدم في ساعة ما يُبنى في سنة.
***
إكتشفنا متأخرين أننا بنينا كلَّ شيء إلا دولة، سها عن بال سياسيينا الكرام أنَّ الدولة هي الركيزة في البناء وليس أي شيء آخر، لم نُدعِّم الركائز بل بدأنا بالطبقات العليا وصولاً إلى الروف، ولكن أين الدولة؟
***
اليوم، اللبنانيون حيث هُم في دول الخليج يقولون بفخر:
نحن في أوطاننا الثانية، كما كان السعودي والإماراتي والكويتي والبحراني يقولون:
نحن في وطننا الثاني لبنان.
هنا بيت القصيد،
وهنا المعادلة الجديدة المؤلمة.
كنا أغنياء بالمواطن الخليجي الذي يحلُّ بيننا قبل أن نكون أثرياء بأموال النفط التي كانت تأتينا، إما من التحويلات وإما من المساعدات وإما من الهِبات وأكثر بكثير من أبنائنا وأشقائنا الذين هاجروا قسراً وجاهدوا وبنوا مع مواطني دول الخليج الروائع التي حرموا من بنائها في لبنان.
اليوم إنقلب الغنى إلى فقر لأننا خسرنا الإثنين معاً:
المواطن الخليجي لم يعد يجد في وطننا مأمناً له، بل يتحمَّل من لا يكفُّ عن مهاجمته ومخاصمته والتهويل عليه غير مبالٍ بما يمكن أن تؤدي إليه كل هذه الإساءات.
***
هذا الأساس، وما يتفرَّع عنه يكون تفاصيل:
سحب ودائع، توقيف طيران، تخفيض عدد البعثات الدبلوماسية، ترحيل لبنانيين، بيع عقارات…
على سبيل المثال لا الحصر، يعيش قسمٌ من اللبنانيين على تصدير منتجاتهم الزراعية إلى دول الخليج، فإذا أُقفِلت هذه الأسواق بوجههم فإلى أين يُصدِّرون إنتاجهم؟
الشركات اللبنانية التي تعمل في الخليج بعضها يوظِّف أكثر من عشرة آلاف لبناني، والبعض الآخر أقل بقليل، فيما لو تمَّ التضييق على هذه الشركات في الإستحواذ على المناقصات، فماذا ستفعل بموظفيها؟
***
للعلم، سوندار بيتشاي، هذا المواطن الهندي الذي لا يعرفه إلا قلائل، هو اليوم الرئيس التنفيذي الجديد لعملاق محرك البحث غوغل، عرضت عليه شركة تويتر خمسين مليون دولار للإنضمام إليها لكنه فضَّل البقاء في شركة غوغل.
المواطنون الهنود والباكستانيون وغيرهم من جنسيات مختلفة يتمددون بأدمغتهم في الدول ولا سيما الخليجية منها.
***
لكن نحن اللبنانيين أولون وأجدرون ليس في دول الخليج الشقيقة فحسب، بل وصلت الأدمغة اللبنانية إلى النازا الأميركية حيث العلم بذاته، ناهيك عن أقاصي الدنيا. لنقل بمحبة إنها غيمة سوداء عابرة بين أشقاء دخل بينهم من يفرقهم ولا بدّ من اللحمة من جديد وعلى أشد وأقوى، ونحن على يقين أنه لا يصحّ إلا الصحيح ولو أخذ بعض الوقت.