سيكون أيار شهر المساومات الداخلية التي ستبلغ حدود الابتزاز لدى البعض. فالجميع محشور سياسياً ومضطر إلى الاختباء وراء الأقنعة في الوقت الحاضر. وفي مدى شهر من اليوم، سيشهر كثيرون أسلحتهم المخبّأة، ويكشفون مواقفهم الحقيقية.
ليس واضحاً لماذا يجري التشديد على أيار باعتباره فرصةً لا تُعوَّض للتسويات السياسية الداخلية:
– النائب سليمان فرنجية يعتبر أنّ عدم إجراء الانتخابات في هذا الشهر سيؤدي إلى تأجليها حتى نهاية العام وأكثر.
– رئيس مجلس النواب نبيه بري يجزم بأنّ أيار سيشهد جلسات تشريعية، ولو لم يحضر العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والنائب سامي الجميل.
– الانتخابات البلدية والاختيارية تمّ تحديد مواعيدها في أيار، على رغم رغبةٍ في التأجيل يتلمَّسها الجميع، خصوصاً لدى تيار «المستقبل» والنائب وليد جنبلاط.
– قانون الانتخابات النيابية، الموضوع في الثلاجة عملياً منذ انتخابات العام 2009، تمّ تحريكه في الأسابيع الأخيرة مع وعدٍ بوضعه على جدول أعمال الجلسة التشريعية في أيار.
طبعاً، هناك مبرِّرات واقعية لجعل أيار ملتقى المواعيد والاستحقاقات. فالانتخابات البلدية تفرض توقيتها، فضلاً الدورة العادية للمجلس النيابي التي بدأت في 22 آذار الماضي. لكنّ تضخيم المراهنة على إنجازاتٍ في هذا الشهر يبدو في غير محلِّه. والأرجح أنّ عدداً من الأفرقاء يكبِّرون الحجر حتى يصبح ثقيلاً جداً ولا يمكن حملُه وضرب الآخرين به.
في اعتقاد البعض أنّ تَداخل الملفات الموضوعة على «الأجندة» والنزاع السياسي حولَها سيُضعف كثيراً احتمالات الوصول إلى نتائج. فالأطراف المعنيون يستخدم كلٌّ منهم ملفاً معيّناً لا لتحقيق إنجاز فيه، بل للضغط على أطراف آخرين وإسكاتهم وتعطيل ملفاتهم.
عملياً، يستخدم بري ورقة للضغط على القوى المسيحية، وخصوصاً على التحالف الرئاسي الناشئ بين عون وجعجع في وجه فرنجية، من خلال إصراره على عقد الجلسة التشريعية «بمَن حضر» مسيحياً. وهو يحمِّل هذا التحالف المسؤولية عن فشل التوصّل إلى قانون للانتخابات النيابية.
ويدرك بري أنّ عون وجعجع هما الأكثر حماسة للانتخابات البلدية، لأنهما باتا يعتقدان أنهما قادران على اكتساح كثير من البلدات والمدن في غالبية المناطق. لكنه سيقرِّر إذا كان سيبيع هذه الورقة للمسيحيين فيدعم إجراءها، أم يبيعها للحريري وجنبلاط فيدعم تأجيلها.
وهنا يصبح على عون وجعجع أن يساوما على قانون الانتخابات النيابية وعلى إجراء الانتخابات البلدية وربما الملف الرئاسي دفعة واحدة. وكذلك، على الحريري أن يساوم. وعندئذٍ، سيختار بري ما يناسبه سياسياً، وكذلك «حزب الله».
إذا كان البعض يعتبر أنّ قانون 1960 أصبح مناسباً تماماً لتمثيل المسيحيين بعد اتفاق معراب، لأنه ألغى تشتُّت الصوت المسيحي، فإنه على صواب «نسبياً»، إذ تجدر الإشارة هنا إلى ثغرتين:
1 – إنّ الدوائر التي سيتحسَّن فيها وضع المسيحيين التمثيلي، بالتخفيف من تأثير الناخبين غير المسيحيين، (الشوف، عاليه، بيروت، زحلة، جزين، جبيل…) تتمثّل اليوم، ولو بمستويات متفاوتة، بنواب محسوبين على كتل «التيار» و«القوات» والكتائب.
وأما الدوائر الأخرى التي يدور نوابها المسيحيون في فلك الكتل الإسلامية الكبرى، في الشمال والبقاع والجنوب، فلا يغيِّر في نتائجها تحالف «التيار» و«القوات». وتالياً، إنّ هذا التحالف يحسِّن وضع التمثيل المسيحي، إذا جرى اعتماد قانون 1960، ولكن نسبياً.
2 – إنّ تحالف الحزبين المسيحيين سيعطِّل حتماً تحالف كلٍّ منهما مع حلفائه في «المستقبل» وحركة «أمل» و«حزب الله» والحزب التقدمي الاشتراكي. وقد يعني ذلك أنّ بعض النواب المسيحيين الذين «يقدِّمهم» الحريري وبري و«الحزب» إلى الحلفاء «سيستعيدونهم» ليأتوا بمسيحيين آخرين «في الجيب».
إذاً، إنّ الأحزاب المسيحية قد تربح هنا وتخسر هناك. ولذلك، إنّ مراهنة عون وجعجع على القبول بقانون 1960 ربما لا تحتاج إلى تدقيق «حسابي» فحسب، بل الى تدقيق سياسي أيضاً.
هذا الواقع يدركه بري والحريري و«حزب الله». لذلك، فاللعبة مفتوحة حول قانون الانتخاب. وأساساً، يرغب كثيرون في استمرار تأجيل الانتخابات النيابية حالياً، بمعزل عما إذا كان سيُجرى الاتفاق على قانونٍ للانتخابات أم لا.
فـ«حزب الله» قد تكون له أسبابه لتعطيل الانتخابات النيابية، ارتباطاً بـ»الأجندة» السياسية الكبرى. وربما يكون الحريري الأكثر رغبة في التأجيل لعدم القدرة على خوض معركة تستوفي كلّ ما تحتاجه من طاقة وقدرة على التحكّم بالشارع، ويليه جنبلاط.
وللضرورات إياها يفضّل الحريري تأجيل الانتخابات البلدية أيضاً. ويفضّل جنبلاط التأجيل لأنّ تحالف عون وجعجع سيضعفه في البلدات المسيحية أو ذات الحضور المسيحي، خصوصاً إذا كان النائب طلال إرسلان في موقع منافس له.
القادر على تلبية الرغبة في تأجيل الانتخابات البلدية ليس وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق طبعاً، ولا القوى المسيحية، بل «حزب الله» الذي يمتلك القرار واقعياً. لذلك، ستتمّ المساومة في جلسة الحوار وقبلها وبعدها: مَن سيعطي مَن في هذا الملف أو ذاك، لنُجري المقايضة؟
الأرجح، يقول مطلعون، ستكون جلسة الحوار المقبلة بمثابة «جلسة مقاصّة» يتمّ فيها تبادل المصالح في الملفات. مثلاً: الانتخابات البلدية مقابل قانون الانتخابات أو الانتخابات الرئاسية…
وفي أيّ حال، سيكون عقد الجلسة التشريعية مطلوباً – أيّاً يكن الأمر- تحت طائلة تعطيل الحكومة أيضاً. وسيكون العنوان: لن نقبل بعد اليوم بازدواجية التعاطي في غياب رئيس الجمهورية، أي تعطيل المجلس مقابل الاستمرار في تسيير أمور الحكومة.
ويبدو أنّ الرسالة وصلت إلى «المستقبل» وفَهِمَها جيداً. ولذلك، أعلن رئيس كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة موقفاً إيجابياً من الجلسة التشريعية… وبَعدَه كرَّت السبحة.
إذاً، إنها «خلطة» سياسية سينشغل بها الوسط السياسي في الأسابيع المقبلة، ذات عناوين كبيرة، ولكنّ الجبل قد يتمخض ليلد فأراً: أي قانون انتخاب سيولد في هذه الأجواء؟ هل ستُجرى الانتخابات البلدية فعلاً؟ وكيف السبيل إلى إنهاء المراوحة في ملف الانتخابات الرئاسية؟
لكنّ المكفول يبقى فقط أنّ عمل الحكومة سيستمرّ مقابل عقد جلسات تشريعية، تحت عنوان «التفاهم السنّي – الشيعي»، تحت سقف المعادلة التي تمّ تطبيقها منذ الحلف الرباعي والدوحة حتى الجلسات الاضطرارية الأخيرة، أواخر العام 2015، والتي شهدت إقرار التشريعات المالية المطلوبة دولياً.
يومذاك، جرى – من أجل الحفاظ على الحدّ الأدنى من ماء الوجه- إرضاء المسيحيين بقانون استعادة الجنسية. والأرجح، سيجري إرضاؤهم بشيء ما لتمرير الحفلة الجديدة. لكن ما أعدَّه فريق الطبّاخين يجب أن يُؤكل… ولو نيّئاً!
هناك «غرامٌ وانتقامٌ» بين بري وعون، وبين الحريري وجعجع، وبين عون وفرنجية. وهناك خطوبةٌ طويلة الأمد لا أفق لها بين عون و»حزب الله». وهناك حواران وحكومة ومجلس لا تتناسل فيها جميعاً إلّا الفضائح التي تولد لتموت… لتولد أخرى، إلى ما لا نهاية ولا محاسبة!
أليست هذه المهزلة مثاليةً لمرور الفضيحة الكبرى، مهزلة النازحين، في محطتها الأَيّارية أيضاً، في اسطنبول؟