Site icon IMLebanon

أوقفوا نقد «حزب الله» و«حماس»!

 

فيما ظهرت أصوات تدعو منظّمتي «حزب الله» و«حماس» إلى توسيع صدرهما للنقد، راحت تتكاثر أصوات أخرى تطالب بوقف النقد، كلّ نقد، يوجّه إليهما ما دام أنّهما تقاتلان إسرائيل في غزّة وفي لبنان.

 

وأمام دعوة كهذه يفترض المرء واحداً من أمرين:

 

* إمّا أنّ القضايا التي شكّلت موضوع نزاع مع المنظّمتين المذكورتين، أي التغيير الديمقراطيّ في سوريّا وإصلاح لبنان واستعادة دولته قرارَ الحرب والسلم، قد حُلّت وأُنجزت لصالح الأكثريّات الشعبيّة في البلدين،

 

* أو أنّ المنظّمتين قد تغيّرتا، في موازاة صراعهما مع إسرائيل، فتراجعتا عن المواقف التي شكّلت سبب الخلاف معهما.

 

والحال أنّه لا هذا حصل ولا ذاك، وما حصل، في المقابل، هو انتصار الأوضاع القائمة في أسوأ تأويل لها، وهذا قبل أن تطرأ حرب غزّة التي يصعب ربطها على أيّ نحو بسيط بما شهدته العقود الأخيرة في منطقتنا وبالأكلاف الهائلة التي استدعتها تجارب تلك العقود.

 

أغلب الظنّ أنّ النقّاد، الداعين إلى مصالحة «حماس» و«حزب الله» هم الذين تغيّروا، أو بالأحرى هم الذين عادوا إلى الموقف السهل، الموروث والمألوف، الذي توهّموا أنّهم غادروه إمّا في 2005 أو في 2011. فقد استيقظت فيهم حميّةٌ تملأ الفراغ كلّه ولا يتّسع الفضاء لغيرها. وفي وقت الجَدّ، كما نعلم، تنكفىء سفاسف الأمور.

 

ذاك أنّ القضايا السابقة، التي ظُنّ في لحظةٍ من التراخي أنّها مهمّة، علتْ أكثر ممّا ينبغي فوق صوت المعركة، وهذا علماً بأنّها، وفق استنتاجات أصحاب الحميّة الأخيرة، ليست «تناقضاً رئيسيّاً»، بحسب ما كان يقول فقيد الثوريّين الخالد ماو تسي تونغ.

 

ويُرجّح أنّ أموراً ثلاثة متلازمة دفعت في الاتّجاه هذا: من جهة، التوحّش الإباديّ لإسرائيل في غزّة، ونعرف أنّ كرم الدولة العبريّة في تعزيز أسوأ ما فينا أمرٌ صاحبَ تاريخنا الحديث كلّه. ومن جهة أخرى، هزيمة محاولات التغيير في المنطقة، وما نما على جذر الهزيمة من يأس وإحباط. وأخيراً، عنصر الإبهار الذي انطوت عليه عمليّة السابع من أكتوبر، والذي لا يُقارَن إلاّ بالإبهار الذي أحدثته عمليّة الحادي عشر من سبتمبر 2001، بحيث طغى في المرّتين قول القائلين إنّ «الما بعد» قطعَ كلّيّاً وجذريّاً مع «الما قبل»، أو وفق لغة المؤمنين، وقعَ جَبٌّ للماضي كما عهدناه.

 

لكنْ في العمق، يلوح أنّ التأثير الأهمّ إنّما نشأ عن الرخاوة والضعف حيال ثقافة شيّدَها، ثمّ وطّدَها، نظام الحياة العربيّة العريض، وليس النظام السياسيّ وحده. والنظام المقصود يملك من السحر ما يتيح لصق كلّ شيء بكلّ شيء في مواجهة «العدوّ» الذي هو «غريب» مرّةً و«إمبرياليّ» مرّةً و«شيطان» مرّةً ثالثة، كما أنّه يملك من السحر ما يزيل به الفوارق بين زمن وزمن، وبلد وبلد، وجيل وجيل. والنظام هذا يمنحنا، في الآن نفسه، نحن المهزومين أمام قوى تافهة جائرة، شعوراً بعظمة الانتماء إلى «جنوب عالميّ» يكبّرنا ويسمو بنا عن المحلّيّ التافه والأبرشيّ. فمن هُزم في مكان بعينه سوف ينتصر في الأمكنة كلّها، أي في العالم، بعد أن ينسحب من هذا المكان الجزئيّ الذي شغلَه على شيء من المضض ليتربّع في البرج الكونيّ الأعلى.

 

لكنّ الانفكاك عن كلّ مكان، والتعلّق الحصريّ بمنصّة عالميّة مفترَضة تُطلَق منها الصواريخ اللفظيّة على «الرجل الأبيض»، قد لا يقود في آخر المطاف إلى أيّ مكان، متّجهاً إلى الطوبى، والطوبى لغةً هي اللامكان.

 

هكذا مثلاً لا يعود يعنينا أنّ «حزب الله»، قد يقودنا، فيما أعينُنا مفتوحة، إلى الانخراط في حرب يختار دخولها على هواه ويشاء لها أن تكون ما يرسمه للحرب. أمّا نحن فلا نملك حيال ذلك إلاّ المبايعة والتفويض لأنّ صراعاتنا المحلّيّة معه تافهة تجاوزها الزمن، وهو لم يتجاوز شيئاً في الواقع. ذاك أنّ «من مات فات، وكلّ ما هو آتٍ آت»، كما كان يقول الخطيب الجاهليّ.

 

والطوبى تضرب في اتّجاهات كثيرة لكنّها، رغم اتّساع حركتها، لا تقلّ براءةً عن البراءة نفسها. فمؤخّراً، عصفت الحماسة بقياديّ سابق في مؤسّسات الثورة السوريّة، فرأى في ندوة شارك فيها، أنّ «الغرب فَقَسَ سوريّا». هكذا بدا القياديّ المذكور كأنّه يُقرّ بحجّة النظام السوريّ من أنّ البلد كان على خير ما يرام، إلاّ أنّ مؤامرة الغرب هي ما أودى به إلى التهلكة. وأغلب الظنّ أنّ صاحبنا، بكلامه هذا، وفّر سبباً لاتّهامه بالخيانة العظمى تبعاً لتآمره مع الغرب ضدّ دولة ونظام لا يستحقّان أن يُرمَيا بغير البنفسج.

 

والراهن أنّ الثورة السوريّة لم تكن وقتاً ضائعاً في انتظار الجَدّ، ولا كانت الانتفاضات اللبنانيّة المتعاقبة منذ 2005 صوتاً يعلو فوق صوت المعركة. وهذا إنّما يبقى صحيحاً حتّى لو كنّا على وشك تحرير فلسطين، فكيف متى كنّا أمام ما بدأ الكثيرون يسمّونه «نكبة ثانية»؟