يحتفل المسيحيون التابعون للكنائس الغربية، اليوم، بالجمعة العظيمة استذكاراً ليوم الجمعة الذي صُلب فيه السيّد المسيح مطالباً أباه السماوي بأن يغفر لجلاّديه «لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون». وتلك هي ذروة الحب الذي يتجاوز قدرة الإنسان. وتلك هي أيضاً ذروة البطولة أن يتفوق الإنسان على ذاته… على مشاعره، على آلامه. والسيّد المسيح، في ناسوته (طبيعته الإنسانية) كان ولا يزال مثالاً استثنائياً في هذا المجال. وهو الذي ذهب برضاه التام إلى عذاب الصلب، عبر درب الجلجلة، والى الموت البشري لأنّه أحب الناس وافتداهم بدمه الطاهر.
في إنجيل القديس يوحنّا (١٥/٩-١٤) نقرأ:
قال الرب يسوع لتلاميذه: «كما أحبني الأب، كذلك أنا أحببتكم. اثبُتُوا في محبتي.
إن تحفظوا وصاياي تثبُتُوا في محبتي، كما حفظتُ وصايا أبي وأنا ثابِت في محبته.
كلمتُكم بهذا ليكُون فرحي فيكم، فيكتمل فرحكم.
هذه هي وصيتي أنْ تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم.
ليس لأحد حب أعظم من هذا، وهو أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه.
أنتم أحبائي إن تعملوا بما أوصيكم به».
وكما يقول أحد اللاهوتيين:
«يربط يسوع الفرح بالحب، وكأنه يقول: «احبب تفرح»، فشرط الفرح هو الحب… ويربط الحب بحفظ وصيته التي تصل الى «الحب الأعظم». فشرط الحب هو الثبات في قبول الآخر حتى «بذل النفس… ولكن أي نوع من الحب يقصد؟ طبعاً الحب الذي فيه ثبات «اثبتوا في محبتي»، الحب الذي يتخطى الشكليات والظروف، الحب الذي يحفظ وصايا الرب، الحب الذي يصل الى الصليب».
هذا الحب العظيم هو الذي شرحه «رسول الأمم» القديس بولس، الذي كان مكلفاً من القيادات اليهودية أن يضطهد المسيحيين في السنوات الأولى من عمر الكنيسة. وكان في طريقه من فلسطين الى دمشق ليواصل اضطهاد أتباع المسيح الأوائل عندما ظهر له يسوع في الطريق وناداه بإسمه اليهودي (شاوول) قائلاً له لماذا تضطهدني؟
فانقلب بولس على ذاته وعلى أحبار اليهود وعلى معتقداته اليهودية وتحوّل الى أبرز رسل المسيح وأكبر اللاهوتيين على مرّ العصور. وراح يكرز بالمسيح في مختلف الأنحاء التي تمكن من الوصول إليها… وبنى رسالته على المحبة. ولا تزال رسالته الأولى الى أهل كورنتوس آية في تعريف المحبة.
لم يسبقه إليها أحد ولم يجارِه فيها أحدٌ آخر. وفيها يقول (١ كو ١٣:١)
«إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاساً يطن او صنجاً يرن. وإن كانت لي نبوة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً. وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلمت جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً.
المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ.
ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء.
ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق.
وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء.
المحبة لا تسقط أبداً. وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل (…)
أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة».
تلك هي العبرة من صلب وموت المسيح الذي افتدى العالم من أجل خلاص البشر لأنه أحب الناس حتى ذروة الذروة في العطاء.