تمرّ على الكرة الأرضية كلّ 4 سنوات، سنةُ كبيس، تكون فيها الروزنامة 366 يوماً وشهر شباط 29 يوماً، والسنة الكبيس هي التي تُقسَم على 4 ونحصل على رقمٍ خالٍ من الكسور، وتتميّز بالقساوة المناخيّة، لكنّ سنة 2016 وإن كانت بدايتها قاسية إلّا أنها انتهت بـ«تتويج» رئيسٍ للجمهورية بعد طول فراغ.
لا يخلو تاريخ الدولة اللبنانية الحديث أو في زمن المتصرفية والقائممقامية أو حتّى أيام الإمارة من سنوات الجفاف، فتاريخ بلد الأرز يمتدّ لعصور، وكما يقول الشاعر سعيد عقل الذي يُعتبر أحد أهم فلاسفة القومية اللبنانية، فإنّ عمر لبنان هو 7000 عام وليس 6000.
الأرض موجودة والجغرافيا لا تتغيّر الإ بمرور عشرات آلاف السنوات ونتيجة عوامل طبيعيّة، لكنّ طبيعة لبنان السياسية تتقلّب لحظة بلحظة، فتارة نخال البلدَ إنهارَ ولم يبقَ سوى إعلان موعد جنازته ودفنه، لنُفاجَأ بعد قليل بخروجه من تحت الأنقاض ومباشرة مسيرة النهوض والإزدهار وترميم ما تهدَّم نفسياً وسياسياً وإقتصادياً.
الإنقلاب
ذلك هو الواقع الجيوسياسي للبنان، فعام 2015 أقفل على ضباب سياسي يلفّ السماء السياسية اللبنانية ويقطع الضوء عن إمكان صَوْغ حلول وتفاهمات تنقذ الوضع. سقطت آخر ورقة من روزنامة 2015 وقصر بعبدا يسكنه الظلام، الحكومة تنازع من أجل البقاء، مجلس النوّاب مُعطّل، الجيش والقوى الأمنية يقاتلان على الحدود وفي الداخل من أجل القضاء على الإرهاب الذي يهدّد الدار وأهلها.
إنتهى العام على نار مبادرة عنوانها ترشيح الرئيس سعد الحريري رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهوريّة، ما أحدث زلزالاً في الحياة السياسية، فزعيم «14 آذار» يرشّح أبرز رموز «8 آذار»، إنّه الإنقلاب السياسي. فقد ورثت الساحة تداعيات هذا الترشيح إلى أن أتى الحدث الثاني الذي ساهم في قلب المشهد الداخلي.
في وقت كانت حظوظ رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون تتدنّى رئاسياً بسبب الرفض الداخلي والإقليمي لوصوله الى بعبدا، حصل ما لم يكن في الحسبان، فشهدت معراب في 18 كانون الثاني من مطلع العام إعلان المصالحة المسيحية بين «القوّات اللبنانية» و«التيار الوطني الحرّ» وترشيح الدكتور سمير جعجع لعون الى الرئاسة.
مصالحة وترشيح طويا نحو 26 عاماً من التقاتل المسيحي ومسلسل الهزائم المتتالية، ووضعا حاجزاً مسيحياً في وجه وصول فرنجية الى بعبدا، حيث ساندهم موقف معظم الإكليروس الماروني الذي رفض فَرض المبادرة الرئاسية من دون رضى القوّتين المسيحيّتين الأكبر.
«تفسّخ» التحالفات
تفسّخت قوى «8 و14 آذار» على وقع ترشيح عون وفرنجية، الحليف أصبح خصم حليفه والخصم بات الحليف، فتفجّر الصراع الحادّ بين «التيار الوطني الحرّ» وتيار «المردة»، وبين عون وحركة «امل» وبين مجموعات قوى «8 آذار» في حين خرج «حزب الله» من السجال بموقف أعلنه أمينه العام السيّد حسن نصرالله مؤكّداً الإستمرار في تبنّي ترشيح عون.
وفيما كان جمهور «14 آذار» ينتظر ككلّ سنة مناسبةَ إحياء ذكرى إستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط، تفجّر الصراع أيضاً في ذاك اليوم بين «القوات» وتيار «المستقبل» بعد عودة الحريري الى لبنان من منفاه القسري وشرحه أسباب ترشيحه فرنجية، متوجِهاً الى جعجع في مهرجان «البيال» بالقول: «يا رَيت يا حكيم عمِلت هالخطوة من زمان قدَّيْ كنت وفّرت عالمسيحيين»، في إشارة الى اتفاق معراب وترشيح عون.
العلاقات الخارجيّة
كلّ تلك المناوشات الرئاسية بقيت في الإطار السياسي، قبل أن تهبّ الرياح الخليجية منذِرة بقطع العلاقات مع لبنان على خلفية موقف وزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي والذي لم يصوّت مع الموقف العربي المندّد بالاعتداء على السفارة السعودية في إيران، فأعلنت الرياض في 19 شباط وقفَ هبات تسليح الجيش اللبناني والقوى الأمنية.
عاش لبنان أياماً عصيبة نتيجة تصعيد «حزب الله» تجاه السعودية والخليج، وقرار المملكة مقاطعة لبنان وتضامن دول مجلس التعاون الخليجي معها، وقد وصل التهديد الى حدّ ترحيل اللبنانيين من الخليج، وعلى رغم مسارَعة الدولة اللبنانية الى تصحيح الموقف خصوصاً عبر رئيس الحكومة تمام سلام إلّا أنّ الأمور لم تعد الى نصابها الصحيح بسرعة نتيجة العتب الخليجي على السلطة اللبنانية.
«البلدية والإختياريّة»
وأمام هذه الأزمات، شهدت البلاد مرحلة إعادة بثّ الحياة الديموقراطية جزئياً بعد التمديد المتكرّر لمجلس النواب، فإزاءَ المطالبات الداخلية، والضغط الدولي، نظّم لبنان إنتخابات المجالس البلدية والإختيارية على دفعات، بدءاً من 8 أيار في بيروت والبقاع، و15 أيار في جبل لبنان، 22 أيار في الجنوب ومعها الإنتخابات الفرعية في جزين، حيث فاز المرشح أمل أبو زيد، وكان ختامها مسكاً في 29 أيار في الشمال.
وأظهرت النتائج تقدّمَ لوائح المجتمع المدني خصوصاً في بيروت، بينما كانت المفاجأة الكبرى فوز اللائحة المدعومة من وزير العدل اللواء أشرف ريفي على لائحة تيار «المستقبل» والتحالف العريض في طرابلس ما شكّل إنقلاباً في مزاج الرأي العام السنّي ومؤشراً خطيراً عمل تيار «المستقبل» على مداواته وسط إتساع الهوّة بين الحريري وريفي وافتراقهما.
المهرجانات كانت عامرة، فالصيف كان هادئاً نسبياً على رغم بعض التوترات الأمنية والسياسية، وشلل مجلس النواب ومحاولة إعادة الحياة الى مجلس الوزراء بعد قرار وزراء تكتل «التغيير والإصلاح» وحلفائه مجتمعين مقاطعة الجلسات في أيلول نتيجة التمديد عاماً لقائد الجيش العماد جان قهوجي.
كانت كلّ المؤشرات تدل على غياب الحلول، المنطقة تغلي من حولنا، المعارك السورية تحتدم وخصوصاً معركة حلب، الحوار السنّي- الشيعي يدخل الرتابة، الرئيس نبيه بري يُعلّق الحوار الوطني في 5 أيلول بعد انسحاب الوزير جبران باسيل منه والذي استلم رسمياً رئاسة «التيار الوطني الحر» في 20 أيلول، فيما «التيار» يهدّد بالتصعيد والشارع تحت عنوان الميثاقية واستعادة حقوق المسيحيين.
المفاجأة والحلّ
لكن فجأة، ومن دون سابق إنذار، انفرجت أسارير الرئاسة بقبول الحريري عون رئيساً للجمهورية بعد اتفاق نادر الحريري ـ باسيل.
شكّلت هذه الخطوة مفاجأةً من العيار الثقيل، خصوصاً في الداخل، ليبدأ الحريري رحلته الخارجية متنقِّلاً بين الرياض وباريس وأنقرة وموسكو، شارِحاً مبادرته، إلى أن أتت الموافقة الإقليمية والدولية.
وفي هذه الأثناء كان الداخل يرتّب أموره ويتأقلم مع التسوية. النائب وليد جنبلاط سارع الى القبول بالواقع الجديد، «القوات اللبنانية» رحّبت، لكنّ برّي انتفض وحاول ربط إنتخاب عون بالقبول بـ«السلّة» التي كان طرحها على طاولة الحوار، فما كان من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلّا أن قصف السلّة بسلاح كلامي من العيار الثقيل، فاتخذت الأمور منحىً صدامياً شيعياً ـ مسيحياً وازداد الإحتقان، في وقت رفض فرنجية الانسحاب من السباق الرئاسي، مؤكداً أنه مستمر في ترشّحه طالما بقي معه نائب واحد.
وبينما كان الحريري يحاول إقناع المعترضين داخل كتلته على التصويت لعون. واجه «حزب الله» ضغطاً هائلاً بسبب اتهامه بأنه لا يرغب في انتخاب عون، الى أن حسم نصرالله الموقف وأكد النزول الى الجلسة لإنتخاب الجنرال.
وفي 31 تشرين الأول انتُخب عون رئيساً للجمهورية في جلسة ماراتونية، فلم ينل غالبية الثلثين من الدورة الأولى، فكانت دورة ثانية تخلّلتها «ألعوبة» الورقتين ما دفع الى وضع صندوقة الإنتخاب على طاولة في وسط القاعة العامة، وحراستها من النائبين مروان حمادة وانطوان زهرا لتخرج النتيجة بفوز عون بـ83 صوتاً.
عاد عون الى قصر بعبدا يومَ الانتخاب رئيساً وعادت الأضواء الى القصر مستعيداً أيام «بيت الشعب»، ليعود الحريري رئيساً مكلَّفاً في 3 تشرين الثاني بـ112 صوتاً وإمتناع «حزب الله» عن تسميته، وبدأ رحلة تأليف الحكومة التي شهدت تطاحناً على الحقائب حتى أبصرت حكومة العهد الأولى النور يوم الأحد في 19 كانون الأول كعيدية الميلاد، ونالت الثقة في 28 الشهر الجاري بغالبية 87 صوتاً كهديّة رأس السنة.
إذاً، سبح لبنان عكس عواصف المنطقة، فانتخب رئيساً وشكّل حكومة وعزَّز المؤسسات التي عادت الى العمل نسبياً، ويبقى التحدّي الأبرز سنة 2017 إقرار قانون انتخاب جديد وإجراء الانتخابات والحفاظ على عملة الاستقرار النادرة.