عمل جديد لأمين معلوف: “كرسي على السين1”. والكرسي هو الكرسي 29 في الأكاديمية الفرنسية، كرسيه. وصاحبه منذ 2011 هو امين معلوف، والده رشدي، والده بطرس، من مزرعة عين القبو، في حرف بسكنتا، خمسة بيوت، ومدرسة في قبو البيت، وحكايات، حكايات تحصد الجوائز في فرنسا واسبانيا وسالزبورغ، حيث تصدح لها الأوبرا في مدينة “صوت الموسيقى” والكولونيل فون تراب.
فعل حامل الرقم 19 للكرسي 29، كالعادة، ما لم يخطر لثمانية عشر من أسلافه أن يفعلوه: أن يكتب قصة كل واحد منهم، بتوقيع أمين معلوف، صاحب الظرف والقلب والوداعة، الذي يحوّل المحبرة إلى إنسان، والقلم إلى إنسانية بلا نهايات، شلالات، وانهار، وجداول، كأنما هذه وصية بطرس معلوف في عين القبو، يوم تطلع حوله فرأى العالم صغيراً، فكلف ابناءه مده إلى ما وراء الأفق.
اوائل الستينات، كانت ساحة البرج لا تزال هي ساحة لبنان. وكانت دور السينما تحمل إلينا كل اسبوع صوراً ملونة من حول الدنيا. أحد تلك الافلام التي لا تُنسى كان “مغيبو الشمس” لروبرت ميتشوم، العريض الكتفين بلا أي موهبة أخرى، وبيتر أوستينوف خاتم الذكاء، ديبورا كير، شعر احمر وحنجرة عسلية.الفيلم حكاية مترحل ايرلندي في اوستراليا، ينصب خيمته وينام حيث يصل. تحاول زوجته وابنه اقناعه بجدوى حياة الحضر، لكنه يمضي في رحلته ملاحقاً الغياب. ترحل امين معلوف في تاريخ العرب وفي تاريخ المسلمين، وذهب خلف عمر الخيام إلى سمرقند، وخلف ليون الأفريقي إلى الفاتيكان، ثم عاد يحفر في تاريخ عائلته وتاريخ قريته وبلده “صخرة طانيوس” و”جذور” و “اساكل الشرق”. وطاف في سواحل المتوسط، وجاب المشرق من ازمير إلى بيروت.والآن، يصول في تاريخ فرنسا، بادئاً بالتاج الذي أعطته، والكرسي الذي منحته في “مجمع الخالدين”. 18 رجلاً من مخلدي فرنسا، ارتدوا قبله السترة المذهبة والقوا خطاب القبول. لا أعرف ماذا فعلت عيناه وهو يقرأ الاسماء: نيكولا اراغون. هنري دومونترلان، وأجل… أجل، ارنست رينان. ما بين 1634 و 2011، فرنسيون مبهرون، من صنوف هيغو وفولتير وموليير، ثم يطل على أربعة قرون من الأدب الفرنسي، رجل قادم من عين القبو.
قد يجد نوعاً من الألفة إلى جانب رينان، الذي ارسله نابوليون الثالث إلى لبنان العام 1860. لم يرد الامبراطور أن يرسل إلى الجبل الملتهب فقط القوة العسكرية، بل شاء أن يقلد عمه، نابوليون الأول، الذي جاء إلى مصر ومعه مطبعة وعلماء و جان فرنسوا شامبوليون العظيم كاشف آثار مصر العظيمة. هكذا اختار البروفسور رينان، الرجل الذي هزّ فرنسا عندما كان اول من يسمي المسيح “إنسان”. فقامت الكثلكة والبروتستانتية عليه، ورأى الامبراطور نفسه مرغماً على أن يكتب إليه شخصياً رسالة اعفائه من التدريس في الكوليج دو فرانس. لن يسمح لأحد دونه مخاطبة رينان في الأمر.
يجول أمين في التاريخ الفرنسي، باحثاً، مؤرخاً، لامعاً، مفاكهاً وعلاّمة. سوف ترى أنه بذل في هذه المطالعات ما بذله في سواها من قبل، حرفاً حرفا، كلمة كلمة، سطراً سطرا. وعندما كان لا يزال يكتب بالعربية، كانت مقالته تصل مكتوبة بقلم حبر على ورق مسطر، وقد الصق، بعناية، سطراً مصححاً فوق سطر آخر. ويتكرر ذلك على بضعة اسطر حتى تبدو الصفحة من طبقتين. يقرأ ثم يعيد القراءة، ثم يعيد الكتابة. لكنه كان من أوائل من انتبه إلى “الكومبيوتر”، تخدمه في عمله، وعالمه الجديد. وعندما حدثني عنها، وشرح لي كيف تحفظ الافكار، ادعيت أنني فهمت، خجولاً بأن اعترف أن علاقتي بالحبر والورق، قضاء اكثر مما هي قدر.
تقدّمَ في الحداثة وأوغل في التاريخ. والتاريخ لعبته الأولى ومسرحه. وهو ليس الدرس، ولا الاستخلاص، ولا الجواب، وإنما هو الاسئلة التي تلد اسئلة أخرى، من غير أن تقدم جواباً واحداً. ما هو جوابك عن حربين عالميتين؟ عن هيروشيما؟ عن فيليب بيتان، عضو الاكاديمية الوحيد الذي جرد من التشريف على بيع فرنسا للألمان. وعلى اية حال، بقي لأمين خمسة من الرؤساء، زملاء في الاكاديمية، آخرهم فاليري جيسكار ديستان.
يلاعب أمين تاريخ فرنسا كما يلاعب لغتها. بمهارة وإعجاب. لكنه يظل غريباً عنها كما هو غريب عن لبنان. إنه مجموعة هويات متصالحة في نفسه، لكنها متقاتلة خارجها. هويات تبحث عن أي وثن، أو وثنية، من أجل القتال باسمها، وهو لا يحب السلاح حتى في الصورة أو في المتحف. وباستثناء مرحلة قصيرة في بداياته الحالمة قبيل حرب لبنان، لم يأنس لفروض الايديولوجيات. وما أن بدأت حرب لبنان ورأى العنف يقتحم المدينة بتعابيره وصخبه وغضبه وعدميته، حتى هرب إلى عين القبو، يحتمي ويحمي اطفاله، من غيّ الجنون.
تاه امين في الهوية وفي حروبها. كان أحد أواخر الذين شهدوا سايغون وهي تسقط. ولما عاد، سألته بغباوة، لماذا لم يبق حتى النهاية. فأجاب بكلمة طفولية واحدة: “خفت”. ولعل سايغون بقيت في خاطره وهو يكتب سقوط غرناطة وحكاية حسن الوزان، المسلم المسيحي العربي الاوروبي الذي يشبهه، والذي روى حكايته تحت اسم “ليون الافريقي”. حكواتي امين معلوف، حكواتي بلا انقطاع، حتى قيل في الغرب إنه الف ليلة وليلة. لكن التشبيه لم يرقه. ربما، لأن الف ليلة وليلة، كتاب بلا اعماق، بلا مشاعر، بلا مواقف. نارجيلة وكركرة وكيفما اتفق. سفاح لا ينام إلا إذا ارتشى بحكاية فيها بهار للوسادة وبخار للعقل.
روايات أمين ليست متخيلة ولا مستعجلة. تأنٍ هائل في البحث، وتأنٍ في الانتقاء، وتأنٍ في انتقاء المفردة ونحتها مثل حجارة بيت بطرس معلوف. لئلا يقع المعمار ويتخبط النقاء. حتى عندما يتحدث أمين معلوف، يتأنى في ربط الكلمة بالفكرة حتى تظنه متلعثم ضائع الالفاظ.
لكن هذه سكينة العائلة. رشدي وحلمي وفخري. اسماء موحدة في العائلة بقافية على الياء. نزل أصحابها من عين القبو اوائل القرن الماضي وكأنهم قادمون من البادية، متخففين من أسماء الشفعاء معلنة الهويات سلفاً. لكن عائلة الأم العائدة من مصر، حملت تدينها في الذهاب وفي الإياب. وإذ فقد أمين الذخر الابوي باكراً في حرب لبنان، حرص على لحظات الأم كالحرز والتمائم.
لم يقتل رشدي معلوف على الجبهة. لم يكن الرصاص ضرورياً لقتله. ذات يوم كان خارجاً من عمله في الإذاعة عندما دوّى انفجار قريب طاول دويّه الكريه قلب رشدي المليء بالموسيقى الكلاسيكية ومفاتيح باخ، فسقط في غيبوبة. واتصلت بعد ايام من باريس بأم أمين اطمئن، فقالت: “نعد انفسنا لما لا يُعد له. رشدي لن يفيق، نائم مثل طفل”.
عندما جاء جاك شيراك إلى بيروت ليدشن قيامتها من الحرب، جعل أمين معلوف عضواً في الوفد الرسمي. قلما عادوا مهاجرو عين القبو من ديار الهجرة. لكن ها هو الحفيد يعود ضمن وفد الاليزيه، يناديه صاحب القصر باسمه الأول، ويسرَّ اليه ضاحكاً، بأنه احد قرّائه الامناء.
لم يكن أول لبناني يمتع فرنسا متعة الأدب وحلاوة لغتها. منذ القرن التاسع عشر وهم يمتعون. سبقه شكري غانم إلى الكوميدي فرانسيز في “عنترة” وسبقه جورج شحاده إلى إسحار الفرنسيين في براعة السرد وحكي الحكايات وتقليم الحوار مثل عرائش عين القبو.
لكن أحداً من هنا لن يسبقه إلى هذا المقعد على السين، الكرسي 29، الذي غرق شاغله الأول في النهر وهو يحاول انقاذ احد النبلاء. من هذه الشرفة أطل أمين يكتب تاريخ أربعة قرون من الملوك، والكرادلة، والثورات، والشعراء، والروائيين، والجنائز الوطنية الكبرى، وفرنسا في حربين عالميتين.
لا يذكرك أمين معلوف، مؤرخاً، إلا بالمؤرخ أمين معلوف، الذي بدأ طريق المصابيح بفكرة لم تخطر من قبله لأحد: “الحروب الصليبية كما رآها العرب”. يومها، لم يكن جالساً على مقعد مطل على اللوفر والسين، بل كان يبحث في مكتبات “السان ميشال” وازقّة الضفة اليسرى، عن كتب قديمة يمكن أن يملك ثمنها، إذا ما امكن.
وفد فرنسوا هولاند إلى بيروت لم يكن فيه أمين معلوف. فالرئيس الفرنسي لم يأت هذه المرة كي يدشِّن شيئاً يفرح اللبنانيين. قادم لتفقد الهياكل، خائفاً على ما بقي من أن يلحق بما لم يبق. كأن لم يتغير شيء منذ فينيقيا: كل مدينة دولة. وكل دولة لا تنجح إلا في الخارج. ساعة رضا كانت ساعة اخترع أهل البلد الملاحة البعيدة. فهكذا يصدرون الأرجوان ويستوردون التنك، ومن وقت إلى آخر، يمرون على عين القبو، فيأخذون منها رجالاً إلى الاكاديمية.