ـــ ١ ـــ
المفاجأة في مشروع العاصمة الجديدة التي أعلن عنها الرئيس السيسي، ليس أنها لم تناقش ولا أنها مبنية في الصحراء…وإنما تعبيرها عن عصر اجتياح «موديل دبي»، وتحول المطور العمراني الى بديل للسياسي وواضع خطط المدن (بمعناه الذي توجد فيه افكار وتصورات بجانب بيع الوحدات السكنية…)، وهنا تظهر سيطرة صنع مدن تشبه المنتجعات العمرانية المغلقة، تباع بقدرتها على تحقيق العزلة باسوارها وغياب الشوارع، باعتبارها مراكز التواصل بين الناس.
وهذا هي الهزيمة المليون لمحاولات المدنية العربية. وفي مواجهتها ليس هناك سوى الحنين الى زمن الانبهار بباريس.
مدينة اوروبا الغربية الواسعة بهندستها المعبرة عن مفاهيم علاقة الفرد فيها بجماعته، كانت هي «الموديل» الذي بنيت عليه المدن العربية الخارجة من هندسة الخلافة العثمانية.
ليس امام المصدومين بمشروع العاصمة الا الحنين في مواجهة الانسحاق امام «موديل دبي». حنين وانسحاق. حنين خفي لفكرة الكوزموبوليتانية. بالتحديد لشكل مدينة مثل القاهرة في الاربعينيات. حنين مثقفين تبدو فيه قاهرة الاربعينيات وما قبلها كأنها «يوتوبيا» تحولت الى مدينة رعب.
بقليل من التأمل يمكن ملاحظة ان كوزموبوليتانية التاريخ الحديث للقاهرة في مستواها الاول، لم تكن تعبر عن تعددية. بل عن سيادة أوروبية. هي اعلان للتفوق الاوروبي، خاصة في المهاجرين المنتمين الى دول استعمارية مثل بريطانيا وفرنسا. هؤلاء كانوا يعتبرون وجودهم رسالة حضارة وتحديث الى الشعوب المتخلفة.
وهذه مفارقة ستظل تلاحق مصر في تاريخها الحديث. هي اول دولة في التاريخ، لم يبق من حضارتها القديمة الا ازياء مضحكة يرتديها الكومبارس في احتفالات الحكومة. وكل محاولات النهضة تتكسر اما على «مؤامرة» او «هزيمة» من الداخل.
لا خطوة تبقى. ولا درس. ولا نقد حقيقي. فقط تغيير «الكتالوغ». في القرن التاسع عشر كان «الكتالوغ»: أوروبا. الان: أميركا. وبينهما مرحلة عابرة لكتالوغ المعسكر الشرقي من أوروبا، لنصل الى كتالوغ دبي.
ـــ 2 ـــ
دبي هي مدينة الاحلام…، بالنسبة لجمهور يبهر بالفخامة، والقدرة على بناء ناطحات سحاب في الصحراء. جمهور الانبهار قطاعات متراكمة اولهم برجوازية قلقة على اخلاقها، الجديدة. وبعد رحلة قصيرة من الاعجاب بالموديل الاوروبي، المتحرر، المتمرد على التقاليد «الشرقية» والمسافر الى محطة اخرى من ثقافة الفرد وحريته ومدنية تضع قانون اخلاقها بمعايير اكثر اتساعا وميلا للحرية الشخصية.
البرجوازية المصرية تعود الى اخلاقها مصحوبة بشعور من العار، تبحث عن انبهار بمكان اخر، وهذه المرة تنبهر بالموديل الخليجي، تسمع في شوارع القاهرة: «يا ريت تبقى الشوارع واحترام المرور زي السعودية».. أو «هو فيه أحلى من دبي وعمارات دبي… ومولات دبي…».
وفيما يبدو ان الانبهار بـ «موديل دبي» وصل الى الحدود الاجتماعية بعد الهوس بالابراج و «الشوبنغ» وأحيانا بكوزموبوليتانية الحياة المفتوحة متعددة الثقافات (يعيش في بعض الامارات ما يقارب 200 جنسية)؟
هل هذ الشكل الجديد من المدنية المتعددة او (الكوزموبوليتانية) بعد الاسكندرية؟ وهل الاسكندرية كانت كوزموبوليتانية؟
ماهو تأثير المال على شكل المدينة، وهل ستصنع الثروات ما كانت تفعله الحضارة؟ هل يمكن ان تكون هناك مدن حاملة للحضارة ولا تنتجها؟ ..هل التعايش بين كل هذه الثقافات سينتج ثقافة مفتوحة؟
ماهي حدود الحرية وأشكالها، وطريقة تنظيم الحياة في مدن تتجه الى عصر ناطحات السحاب، بدون العقول التي صنعت ناطحات السحاب…؟
لماذا اصبحت دبي «موديل» اجتماعي ومعماري؟
لماذا اصبحت المدينة الناعمة المقامة على سطح جاف لا يمتصها هي سقف الاماني في مدينة قديمة، متعددة الطبقات الحضارية، امتصت تربتها خصوبة تلاقح حضارات متباينة؟
ـــ 3 ـــ
من القاهرة الى بيروت هناك «مولات» فخمة، ضخمة، تستوحي صرعة دبي في كل ماهو ضخم وفخم، وتحاول ان تصنع مدينة من لاشيء تقريباً.
مدينة مصنوعة يمكنها ان تبهر العين الفقيرة، او التي تختصر الجمال في الفخامة والابهار في استعراضات تكشف عن ثروات وتشتري خبرات، لكنها تفتقد الى شيء كبير.
دبي، ربما تكون جميلة، مثل العاب الملاهي، لكنها تمثل ازمة المجتمع في الخليج الذي يستهلك اعلى انجازات الحضارة، ولا تتطور معها العقليات والنظم الاجتماعية.
هكذا تبدو الحرية في دبي قشرة، لا يجتهد احد في تحويلها الى جدل وافكار وثقافة فاعلة…انها جزيرة الاستهلاك الكبرى التي يعبر انتشارها عن الهزيمة امام «موديل» الخليج، هاجس مصري منذ لحظة تزامنت فيها هزيمة حزيران للمشروع المصري، مع انفجار الثروة من باطن الارض في الخليج، واستقطابها لملايين المصريين الباحثين عن الثروة.
لم يتغير التفكير في علاقة القاهرة بالموديل الخليجي، مازال الرفض متوقفا عند نقد ثقافة «البترو دولار» تحت احساس بالخيبة: كيف كانت مصر وكيف اصبح الخليج؟
هذه فكرة لا ينافسها في السخف الا تقليد نموذج الخليج من كل الذين يلعنونه صباح مساء.