IMLebanon

صرخة مستعارة من مجنون زياد

يستحق زياد الرحباني، بالتأكيد، أكثر من دراسة. لا حول موسيقاه وأثره الفني وحسب. بل أيضاً وخصوصاً، حول حدسه وحسه السياسيين. أي تحديداً، حول تلك الناحية التي لا يحبها فيه، ولا يحب الكلام عنها. حول أن يكون تطور مسرحه، أهم مرجع لتاريخية الحرب الأهلية في لبنان. قبل 13 نيسان 1975 وبعده. واليوم؟!

بدأ زياد قراءته السوسيو ــــ سياسية للمجتمع اللبناني على قاعدة الانقسام الطبقي لا غير. في «نزل السرور»، عشية الحرب، كانت مقاربته محصورة بصراع «الشعب المسكين» مع طبقة «الخواجات». صراع كان لا بد أن يؤدي إلى ثورة.

وكان لتلك الثورة أن تزعزع البلد ــــ الفندق. بكل بساطة لأن «تاريخنا ناطر كف من غيمة». لكن المهم أن حس زياد وحدسه السياسيين أصابا يومها.

استمرت مقاربة الرجل للمسألة اللبنانية هي نفسها مع مسرحيته التالية، «بالنسبة لبكرا شو؟». لكنه أضاف إلى الصراع الطبقي عامل الخارج الخليجي، وضغطه المتفاعل مع ضغوط البلد الداخلية. تفاعل يسلب كرامة الإنسان، بالطوع القسري. بالدعارة الاغتصابية. صراع داخلي ــــ خارجي، لا يلبث أن يفجر الوضع. لكن موسيقى البداية تعود سريعاً لتحل تكراراً في النهاية. في إشارة سوداوية قاسية، إلى أن البلد ــــ البار، مثل البلد ــــ الفندق تماماً، لا معنى للثورة فيه، إلا أنها مؤنث الثور ربما. كما توحي بمصادفة غريبة معبرة، لغة الضاد. وأصاب زياد مرة أخرى.

بعد أعوام قليلة تطورت أكثر مقاربة زياد لأزمتنا. ليست المسألة صراعاً طبقياً فقط. بل ثمة إشكالية طوائفية أيضاً. هكذا في «فيلم أميركي طويل»، حضر البعدان معاً في الحبكة. فكان هناك ممثل «الحركة الوطنية» مع فوبيا «إدوار» الطائفية، في العصفورية. وحضرت مع الاثنين بداية إضاءة على سلوكية الفرد عندنا. ذاك الذي «يفرد». ولا يقدر أن يكون مجتمعياً، ولا أن يكوّن مجتمعاً. فحضرت للمرة الأولى تلميحاً، مسألة مسؤولية الفرد، أكثر من مسؤولية المسؤول عن حروبنا المستدامة. عبر قاعدة الثمانين بالمئة من ناسنا الذي يتلونون ويتقلبون. وعبر نظرية أن «الشعب عم يستغل الزعماء والزعماء معترين» … من دون مزيد من التفاصيل حول صحة الحدس السياسي الزيادي مرة أخرى.

بعد عامين فقط، تطور أكثر تشخيص الرحباني لأزمتنا الوطنية العميقة البنيوية: صراع طبقي، زائد إشكالية طوائفية دوغماتية، لكن معهما، وبشكل أكثر تأسيساً للانفجار ــــ المسرحي والوطني ــــ تخلف على مستوى الفرد. في «شي فاشل»، صار «بطل» كارثتنا الوطنية، المواطن نفسه. المواطن الفاسد، الانتهازي، الوصولي، الكذاب، التافه السطحي السخيف. أكان في دور المخرج أو الفنان أو التقني أو العسكري… ومرة جديدة، أصاب الرجل في استقرائه لعجقة الرينغ، ومحاكمة أبو الزلف التاريخية.

غاب بعدها زياد عقداً كاملاً، ليعود في ذروة محاكمته لنا: مع «بخصوص الكرامة…» صار تشخيصه أن كل القضية اللبنانية تكمن في أننا وحوش لا غير. وأن توحشنا الفكري والمجتمعي والسياسي، هو سبب كل حروبنا، وسيكون سبباً مؤكداً لحروب محتومة مستجلبة من آخر أصقاع الأرض إلينا.

أكثر من عشرين عاماً غاب بعدها زياد عن مسرحه. ربما لأنه لم يقدر على تجسيد نص يصور ما بلغناه اليوم. في أن نكون وحوشاً فعلية، تدعي تعددية حضارية باسم الدين، وتنهبها طبقة أوليغارشية باسم رأسمالية متوحشة هي الأخرى، مغطاة بحصانات مذهبية، ومتفلتة من أي محاسبة نتيجة توحش فردنا اللامجتمعي. ثمة استحالة فعلية في تصوير واقع كهذا، فعلي دقيق، مشهدياً ومسرحياً. استحالة أن تركب كل الإشكاليات معاً دفعة واحدة، في سياق متطور متفجر ومتفاعل كل لحظة، مع كل تطورات الخارج وتفجيراته وتفاعلاته.

أكثر ما قد يحضر في حسنا اليوم، كتعبير عن حالتنا الراهنة، ذاك المشهد الأخير من مأساة معالجة مجانين زياد في فيلمه الأميركي. حين يعودون من جلسات الصدمات الكهربائية، وقد تحولوا إلى ببغائيين جاهزين للعرض «الصحيح وطنياً». ثم فجأة يصرخ أحدهم صرخة عظيمة، ثم يسكت. كأنه استعاد بعض وعيه المشلول. كأنه استرد شذرة من عقله المكهرب. قبل أن يقمعه مجدداً واقع الوطن ــــ العصفورية ـــــ المستشفى. كم نحسنا اليوم مكان ذاك الذي صرخ. كم مرة يراود كلاً منا، ممن لا يزالون يملكون آخر بقايا الوعي وآخر آثار العقل وآخر بصمات الإدراك… كم يراودنا كل يوم أن نصرخ، ولو صرخة صمت، أو حتى صرخة موت. صرخة واحدة للقول إن كل ما حولنا لا يشبهنا. كل ما يجري لا يمثلنا. كل ما يحصل لا يجسدنا ولا يعنينا. صرخة واحدة إلى سعد الحريري، بمعزل عن معادلة المكرمات والكرامات، للقول إن الدفاع عن معركة وهابية لا يشبهك. ولا يليق بإرث والدك. ولا يقارب بيروت التي تحبك وتمثلها… صرخة إلى حسن نصرالله، بمعزل عن موازين صراع اليمن والعراق وسوريا وداعش، للقول أن اللادولة حول بيئة المقاومة لا تشبهك يا سيد. وأن عشوائيات بعض تلك البيئة لا تشبه انضباط حزبك ولا تمثل التزام شهدائك… صرخة إلى وليد جنبلاط، بمعزل عن حسابات الموت والحياة ونهر جثث الأعداء، للقول إن عزلتك المستجدة لا تشبه دورك. واعتزالك المطروح لا يناسب موقعك. وانعزالية نأيك لا تطابق تاريخك… وصرخة أخيرة إلى كل المسيحيين، أن استقالتكم لا تشبه تأسيسكم ذات تاريخ لوطن. وأن الحوض الرابع لا يتسع لرسالتكم. وأن موتكم أحياء لا يليق باسم من قام حياً من بين أكثر من صلب وموت…

هي مجرد صرخة، مستعارة من مجنون زياد، في زمن صمته وصمتنا والجنون.