IMLebanon

«يبكون ضحاياهم، لا ضحايانا»

شاع في الآونة الأخيرة نقد عربيّ للغربيّين، الأوروبيّين منهم والأميركيّين، مفاده التالي: إنّهم يبكون على ضحاياهم الذين أودى بهم الإرهاب لكنّهم لا يبكون على ضحايانا، علماً أنّ الأخيرين أضعاف الأوّلين عدداً.

والنقد هذا، الذي تنقله وسائط التواصل الاجتماعيّ ورسائل القرّاء في الصحف والمواقع، ليس جديداً. فكثيراً ما أُخذ على الحكومات الغربيّة اكتراثها بأفراد من بلدانها يُقتلون أو يُخطفون في بلداننا، فيما لا تبذل تلك الحكومات الاهتمام ذاته حين يتعرّض أفراد عرب أو مسلمون لانتهاكات قتل أو خطف.

مع هذا فالجديد اليوم هو مدّ النقد من الحكومات التي أدمنّا على هجائها إلى الشعوب التي هي أيضاً «عنصريّة» ومعادية «لنا»، بما فيها وسائل إعلامها التي تغطّي أخبار بلدانها أكثر ممّا تغطّي أخبار بلداننا.

أغلب الظنّ أنّ هذا التصعيد النقديّ، بل الهجائيّ، وليد انكشافنا على نحو مؤلم: فنحن نعيش حروبنا الأهليّة المفتوحة، وتنزح أعداد هيوليّة من أبناء جلدتنا إلى الغرب، وتتصدّع مجتمعاتنا ودولنا، فيما نطالب هذا الغرب إيّاه باستقبال نازحينا وبالتدخّل لوقف حروبنا أو لتخليصنا من مُستبدّينا. وفي موازاة انكشاف كهذا، لا بدّ من الدفاع عن النفس المتداعية بردّ تداعيها إلى آخرين، خصوصاً ذاك الآخر الذي ننكشف حياله، فتغدو إدانته وتحميله المسؤوليّات شرطاً لتماسكنا النفسيّ واستمرارنا الوجوديّ.

غنيّ عن القول إنّ الحسّ الإنسانيّ المؤمثل، أي العابر للروابط النسبيّة، قرابةً ومواطنيّةً وشراكة في الأرض أو في اللغة والثقافة، لا يميّز بين إنسان وآخر وبين ضحيّة وضحيّة. وهذا الحسّ هو ما تتّجه إليه البشريّة في لحظات صحّيّتها وتعافيها، حيث تنكمش القوى القوميّة والدينيّة والعنصريّة لتنكفىء إلى هامش ضيّق.

لكنْ لماذا يُفترض أنّ هذا التعالي لا يوجد إلاّ في الغربيّ الذي نطالبه وحده من دون سواه بأن يتعدّى الروابط النسبيّة تلك؟ ولماذا يُفترض بالصحيفة الغربيّة وحدها أن تغطّي أخبار لبنان وباكستان وأوغندا كما تغطّي أخبار بلدها، غير عابئة بجمهور قرّائها وهمومهم المباشرة؟ أوليس في ذلك إقرار ضمنيّ منّا بتفوّق عابر للنسبيّة يُفترض أنّه من مواصفات الغربيّ؟ ذاك أنّ الأخير، تبعاً لهذا النقد، هو وحده العالميّ، الذي يُحاسَب ويُقاس بناء على عالميّته المفترضة هذه. هكذا يُرسم كائن يحبّ العالم، أو يُحاسَب على أساس حبّه للعالم، أكثر ممّا يحبّ قريبه وجاره وابن وطنه والمتحدّث بلغته إلخ.

وأيضاً، وما دام العالم مقسوماً إلى دول وشعوب، يصعب النظر إلى ذاك التعاطي مع الغربيّ، حتّى لو اتّخذ شكل النقد أو الهجاء، إلاّ بوصفه دليل استصغار لأنفسنا ولما يمكن توقّعه منّا. فلماذا لا يقال، مثلاً، إنّنا لا نبكي أوروبيّين يُقتلون، ولا تغطّي صحفنا أخبار العالم، وحين يسقط واحد من ضحايانا نسارع إلى تسييس موته بما يخفّف وقعه الإنسانيّ، وعندما نبادل العشرات منّا، بل المئات، بجنديّ إسرائيليّ، وأحياناً بجثّة إسرائيليّة، نكون قد «سعَّرنا» بأنفسنا بشرنا على نحو تبخيسيّ جدّاً؟

وهذا ما يضعنا أمام سؤال لا يجدي الهرب منه بالنقيق المتواصل الذي يجمع بين البله والنفاق: فإمّا أنّ الغربيّ هو وحده الكائن الكونيّ، أو الأقرب إلى الكونيّة، بحيث يُنتقَد ويُساءل من هذا الموقع المهين لنا، أو أنّنا متساوون نحن والغربيّ في مدى كونيّتنا، أو لا كونيّتنا، بحيث ننتقد أنفسنا ونسائلها عمّا نفعل ببشرنا، وكيف ننتج أفراداً أحراراً، وحكومات تهتمّ بمصائر أفرادها، وصحفاً ذات هاجس كونيّ؟

والحال أنّ التعاطي بجدّيّة وبمسؤوليّة مع هذا السؤال هو ما يجعل الكلام محترماً وقائليه مستحقّين للاحترام.