في فترة زمنية قصيرة، نجحت الولايات المتحدة في انجاز ملفين استراتيجيين، هما كوبا وايران، سوف ينعكسان بطبيعة الحال على الاقتصاد الاميركي الذي يشهد في هذه الفترة صعودا لافتاً، ويعاكس المخاوف العالمية من أزمات اقتصادية تحاصر اوروبا والعالم. ويستطيع لبنان، ان يستفيد من أحد هذين الانجازين، اذا ساعدته الظروف الداخلية.
منذ الاعلان عن الاتفاق المبدئي الغربي-الايراني حول الملف النووي، انهالت التحليلات والقراءات المرتبطة بانعكاسات هذا التطور على المنطقة والعالم. وعلى رغم التركيز على المكاسب والخسائر الاستراتيجية المحتملة لهذا الاتفاق، في حال توقيعه في حزيران المقبل، الا أن الجانب الاقتصادي قد يكون الورقة الرابحة التي دفعت الولايات المتحدة الى وضع ثقلها لانجاز الاتفاق، ودفعت ايران الى «التضحية» مبدئيا بالانجاز النووي.
واذا كانت المكاسب الاستراتيجية للطرفين اللذين توصلا الى الاتفاق ليست واضحة تماما، على اعتبار ان البعض يعتبر ان الاتفاق قد يتضمّن تفاهمات سرية غير مُعلنة على النفوذ، وما شابه، فان المكاسب الاقتصادية واضحة تقريباً، وهي مغرية وفق كل المعايير.
هذا الأمر ينطبق على الملف الكوبي، بعدما نجحت الولايات المتحدة في انهاء قطيعة وعداوة طويلة الأمد مع هذه الجزيرة التي كادت في يوم من الأيام في الستينيات، أن تتسبّب باندلاع الحرب العالمية الثالثة. مع فارق أساسي بين الملفين الكوبي والايراني.
ففي الحالة الكوبية، لم تكن الاغراءات الاقتصادية تشكل جزءا كبيرا من الصفقة، بل المكاسب الاستراتيجية والمعنوية للأميركيين، في حين ان الحسابات الاقتصادية في الحالة الايرانية كان نصيبها اكبر في تحفيز الوصول الى اتفاق.
في الحالة الكوبية، اعتبر البعض ان البابا فرانسيس الثاني، الذي لعب دورا مهما في انجاز الاتفاق، أهدى الولايات المتحدة الاميركية هدية استراتيجية ثمينة، وأهدى الشعب الكوبي هدية اقتصادية أثمن، على اعتبار ان الاقتصاد في الجزيرة التي كانت محاصرة بالعقوبات الاقتصادية وصل الى مرحلة ميؤوس منها، وكان يتجه الى الاسوأ، لاعتبارات عدة، من ضمنها تراجُع الدعم الفنزويلي بالنفط، والذي يمكن ان يتوقف كليا في حال تغيير النظام، وتراجُع مداخيل تصدير السكر الذي شكل العامود الفقري للصادرات الكوبية.
من المعروف ان كوبا جزيرة صغيرة مساحتها حوالي 2200 كلم مربع، ويبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة. ولا يتجاوز الدخل القومي (GDP) فيها الـ33 مليار دولار. هذا الواقع، جعل من عملية التوصل الى اتفاق على تطبيع العلاقات مع الاميركيين بمثابة خشبة خلاص اقتصادي للكوبيين.
ولن تطول المدة قبل ان تبدأ الانعكاسات الاقتصادية بالظهور سريعا. وقد يكون انتقال فريق البرنامج الاقتصادي التابع لمحطة الـCNN الاميركية الى كوبا لنقل مجالات الاستثمارات المتاحة في الجزيرة، بمثابة مؤشر على التطور الذي سيشهده اقتصاد الجزيرة في السنوات المقبلة.
في المقابل، تبدو الحالة الايرانية مختلفة تماما، حيث الحديث هنا عن دولة كبيرة تملك طاقات وثروات هائلة. اذ تبلغ مساحة ايران حوالي مليون و648195 كم2.
ومساحتها تساوي مساحة المملكة المتحدة، فرنسا، إسبانيا، والمانيا مجتمعة، وهي بذلك تعتبر الدولة الثامنة عالميا من حيث المساحة. كما تحتل ايران مركزا مهماً في أمن الطاقة الدولية والاقتصاد العالمي بسبب أحتياطاتها الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي. حيث تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، ورابع أكبر احتياطي مؤكد من النفط. كما اقترب عدد سكان ايران من 80 مليون نسمة.
ويبلغ معدل دخل الفرد فيها حاليا حوالي 15 الف دولار سنويا. لكن هذا الدخل مرشّح للارتفاع بسرعة، في حال تطبيق مندرجات الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الغربية، وانفتاح الاقتصاد الايراني على الاقتصاد العالمي.
فرص لبنان
في هذا السياق، تعتبر ايران، بعد انجاز الاتفاق في حزيران المقبل، بمثابة فرصة اقتصادية اكيدة بالنسبة الى اللبنانيين. وهناك مجالات عمل واسعة يمكن ان توفرها عودة بلاد فارس الى الحظيرة الدولية. ومع رفع العقوبات سوف يكون السوق الايراني، بكل امكاناته قد انضم الى لائحة الاسواق الاقليمية المفتوحة.
وقد أثبت القطاع الخاص اللبناني، وعلى رأسه القطاع المصرفي، انه قطاع ديناميكي قادر على التوسّع في الاسواق الاقليمية، انطلاقا من ميزتين اساسيتين: اولا، القوى البشرية المميزة التي تعتبر من الافضل في المنطقة، وفي العالم. ثانيا، الفائض المالي المتوفر في الاقتصاد الوطني، والذي تعكسه الودائع المكدّسة في المصارف اللبنانية والتي تجاوزت في مجموعها الـ150 مليار دولار.
ولا شك في ان المصارف التي صارت اكبر من حجم الاقتصاد المحلي، والتي انتشرت في المنطقة بحثا عن سبل الافادة من هذا الحجم الاستثنائي، سوف تكون امام فرصة طيبة للدخول الى السوق الايراني، ومواكبة عملية عودة الديناميكية الاقتصادية الى هذا السوق.
صحيح ان حصة الاسد ستكون مبدئيا للأميركيين ودول الغرب، لكن موقع لبنان، وتمايزه لكونه نقطة تلاقٍ سياسي بين ايران ودول الخليج، تمنحانه أفضلية لا تملكها الدول العربية الاخرى التي يمكن ان تنافسه في السوق الجديدة. بل أكثر من ذلك، يستطيع لبنان، على المستوى الاقتصادي، ان يتحول الى جسر عبور بين المحورين المتقاتلين حاليا على الارض اليمنية.
هذه الفرصة ستكون مُتاحة عمّا قريب، لكن من المؤكد ان القطاع الخاص اللبناني لن يُقدم على اية حركة اليوم، بانتظار ان تبدأ العودة الغربية الى الاسواق الايرانية.
كما ان الحكومة اللبنانية ستكون حريصة بطبيعة الحال على التمسّك بالعلاقات المميزة مع دول الخليج العربي، ولن تتخذ أي قرار، يمكن ان يؤثر سلبا على هذه العلاقات، على اعتبار ان السوق الخليجي يبقى الخزان الحيوي الاول للاقتصاد اللبناني.
لكن ضمن معادلة الحرص على التعاون الايجابي مع الخليج، ومواكبة الفرص الاقتصادية التي ستُتاح في ايران، يستطيع لبنان بقطاعه الخاص، ان يحقق انجازات جديدة، قد تساعده على النمو والتطور، وجني المكاسب من الوضع الجديد في المنطقة.