بسقوط جدار برلين عام 1989، انتصر النظام الرأسمالي على النظام الاشتراكي وانتصر ماكس فيبر على كارل ماكس. وتحدث فوكوياما عن «نهاية التاريخ».
وفي بداية القرن الحادي والعشرين أصدرت جمعية الأمم المتحدة تقارير حول توزع الثروة في العالم على عدد السكان لتؤكد أن 20% من سكان الكرة الأرضية وهم سكان شمال الكرة الأرضية يتمتعون بـ80% من الثروة العالمية و 80% من سكان الكرة الأرضية وهم سكان جنوب الكرة الأرضية يكتفون باستهلاك 20% من الثروة العالمية.
وأكدت هذه التقارير أن آليات اشتغال اقتصاد السوق تزيد الغني غنىً والفقير فقراً.
وإلى جانب هذا المعطى الموضوعي، فإن وسائل الإعلام العالمي والمرئي منها على وجه الخصوص، إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة والمتنوعة تقوم بإبراز أبهى صور الحرية والرفاه لحياة الفئات الاجتماعية الأكثر غنىً في العالم.
وقد قامت وسائل الإعلام العالمي بتعميم ثقافة حقوق الإنسان وفق ما ورد في شرعة حقوق الإنسان العالمية الصادرة عن جمعية الأمم المتحدة، بشقيها المدني والسياسي من جهة والاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى.
وهكذا تجلى التناقض بين الشروط الاجتماعية والاقتصادية المتعسرة لفئات اجتماعية واسعة في العالم كله وفي المجتمعات كافة، وبين وعيها لحقوقها الإنسانية كبشر أولاً وكمواطنين في دول محددة ثانياً.
فاقتصادياً نحن مواطنون عالميون بفعل سيطرة قيم اقتصاد السوق العالمية والدولة التي لا تخضع لشروط السوق يتم فرض العقوبات عليها بإخراجها من السوق العالمية وهذا ما يكفي لإخضاعها.
وثقافياً نحن مواطنون عالميون بمرجعية واضحة وهي شرعة حقوق الإنسان العالمية مع الإحتفاظ بالخاص الثقافي للجماعات والشعوب كتنوع في إطار الوحدة، كما يقول ثيلار دو شادران (Theillard de chadrin).
أما سياسياً فكلنا يتطلع اليوم إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية لإستقراء مستقبل السياسة العالمية، فصوت الناخب الأميركي، من حيث تأثيره على السياسة العالمية أكثر وزناً من صوت الناخب الأوروبي فكيف به إزاء صوت الناخب في دول جنوب الكرة الأرضية؟ وهكذا فالدرب من أجل مواطنة سياسية عالمية ما يزال شاقاً وطويلاً وبالتالي فإن تطبيق شرعة حقوق الإنسان وخاصة في بعدها الاجتماعي والاقتصادي عالمياً، لا يزال مجالاً للنقاش النظري بين الباحثين في مؤتمر يعقد في جامعة (Oxford) سنوياً. ويالتالي فإن الشروط الاجتماعية والاقتصادية لمكافحة التطرف عالمياً لا تزال غير متوفرة والتطرف يمكن أن يأخذ أشكالاً مختلفة وفي أزمان مختلفة.
يقول هنري كسينجر في كتابه «النظام العالمي» الصادر عام 2014 «إن الواجب الأخلاقي يفرض على الولايات المتحدة أن تقود العالم من الخلف«.
ويقول بريجنسكي في كتابه «رؤية استراتيجية» الصادر عام 2012 «أنه يجب ضم روسيا وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي من أجل حصار الصين».
ويتوزع الاقتصاد العالمي وفق تقرير البنك الدولي عام 2013 على الشكل التالي :
الاتحاد الأوروبي 33%.
الولايات المتحدة 32%.
اوستراليا، كندا واليابان 10%.
مما يعني أن اقتصادات العالم الغربي تساوي 75% من إقتصاد العالم أما الاقتصاد الصيني فيشكل 17% من اقتصاد العالم والاقتصاد الروسي 2.3% منه، أما الباقي في المجتمعات في العالم فهي تعيش على ما يقارب 5% فقط من الاقتصاد العالمي.
يقول بيار بورديو (Pierre Bourdieu) : «لايمكن تفسير ظاهرة اجتماعية في عالم اليوم، إلا بدراسة مدى تأثيرها بالعامل الكوني (Le facteur universel).
فالتطرف ظاهرة عالمية وهي ظاهرة سياسية ذات غلاف أيديولوجي عرقي مع النازية، قومي مع لو بن (Le pen) وديني مع الإسلاميين المتشددين.
ولكنها تبقى ظاهرة طارئة وغير أصيلة، فالعالم إلى مزيد من التفاهم والتقارب في القيم الإنسانية، وهذا باراك حسين أوباما، ذي الأصول الإفريقية، رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
وهذه منظمة الأونيسكو العالمية تعتمد مفهوم التنوع الثقافي في إطار الوحدة بدل مفهوم التعددية الثقافية التي أضحت عنواناً لصراع الحضارات وفق هانتينغتون بعد أن كانت ذات وظيفة إيجابية في مواجهة الحضارة الغربية والانوية الحضارية يوم أنتجها كلود ليفي ستراوس في العام 1964 في تقريره لمنظمة الأونيسكو بعنوان «العرق والتاريخ».
فالعقليات في هذا الزمن العالمي ثلاث:
العقلية العلموية.
العقلية الاستهلاكية.
العقلية الراديكالية، عرقية كانت أم قومية أم دينية.
واما في العالم العربي، فبعد سقوط النظام العسكري العربي عام 1967 (هزيمة 5 حزيران) والنظام السياسي العربي عام 1977 (زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس). وفي ظل عجز المجتمع الدولي عن إلزام إسرائيل بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية 242 و 338 القائلة بانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في العام 1967 ومن الجولان السوري، كان التضامن العربي مع الثورة الفلسطينية التي أخرجها الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 من بيروت مكسورة.
وهكذا وجدت الشعوب العربية نفسها أمام مجتمع دولي عاجز عن تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وأمام دول غربية متعاطفة مع الاحتلال الإسرائيلي من جهة وأمام أنظمة استبداد سياسي في العالم العربي عاجزة عن الإنتصار للشعب الفلسطيني وعن تحقيق تقدم اجتماعي بفعل سياسات القمع المتبعة تحت شعار أولوية مواجهة العدو الإسرائيلي من جهة أخرى.
وبفعل انتصار الثورة المسماة إسلامية في إيران والمرعية من العالم الغربي لمواجهة النظام الشيوعي العالمي، تقدم شعار: «الإسلام هو الحل» في العالم العربي بعد أن إنهار الفكر القومي العربي، المرتكز إلى عرق عربي ودين إسلامي، والمتمثل في الناصرية والبعث وسقط معه شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».
ولكن الدولة الوطنية في العالم العربي كانت عاجزة أيضاً عن تقديم الحلول إن للمشكلات ذات البعد الوطني أو للمشكلات ذات البعد الاجتماعي الاقتصادي.
وبفعل سقوط النظام الاشتراكي العالمي، سقطت موضوعياً أنظمة الاشتراكية الوطنية في العالم العربي.
وكان الربيع العربي الذي افتتحته تونس الخضراء، تونس حزب النهضة الإسلامية وحزب النداء، واتحاد الشغل، والمجتمع التونسي الحيوي. هذا الربيع العربي الذي شكل مسار تحول اجتماعي بشعارات الحرية والكرامة، الذي يبدو متعثراً هنا وهناك، إلا أنها الجلجلة على درب القيامة.
فهذا سقوط السيد نوري المالكي في العراق بداية تحول باتجاه استقرار سياسي عراقي لا مكان لنفوذ إيراني فيه وهذا سقوط تحالف السيد علي عبد الله صالح مع الحوثي بفعل عاصفة الحزم وإخراج النفوذ الإيراني من اليمن وهذا القرار 2254 الذي يحدد مواقيت التحولات السياسية في سوريا باتجاه انهاء حكم آل الأسد وإخراج النفوذ الإيراني من سوريا وهذا الشعب الإيراني الذي يتحول باتجاه دعم التيار الإصلاحي داخل إيران لمشروع إيران الدولة على حساب مشروع إيران الثورة.
إن سقوط مشروع تصدير الثورة في إيران وإلحاق الهزيمة في تمدد مشروع الهيمنة الإيراني في العالم العربي هو الشرط الذي لابد منه (Sinequanon) لإلحاق الهزيمة بمشروع التطرف الإسلامي، سنياً كان أم شيعياً، في كل مكان في العالمين العربي والإسلامي، بما فيها إيران نفسها، وفي العالم أجمع. لأن التطرف المعادي للإسلام في أوروبا ناجم عن التطرف في بعض البيئات الإسلامية فيه.
ويشكل إسقاط مشروع الهيمنة الإيراني في سوريا حجر الرحى في هذه المواجهة مع التطرف لما تمثله سوريا بالنسبة للمشروع الإيراني. فإسقاط المشروع الإيراني في سوريا هو إسقاط له في العراق وإسقاط له في لبنان وإسقاط له في فلسطين ومنع تمدده باتجاه دول الخليج.
فالتطرف الإسلامي السني، ظاهرة سياسية، أنتجت كردة فعل على مشروع الهيمنة الإيراني الشيعي. أنه تعبير عن صراع سياسي وهو ليس صراعاً مذهبياً.
أما في لبنان وبفعل الخيار السياسي الواضح والدقيق للحكومة اللبنانية بالتصدي لأي ظاهرة تطرف، وأولها في البيئة السنية اللبنانية، فقد إستطعنا أن نحمي هذه البيئة من التطرف ونواجهه حيث وجد، كمحاولة حركة «فتح الإسلام» التي أنتجها النظام السوري في مخيم «نهر البارد» الفلسطيني في شمال لبنان، والذي حاول «حزب الله» أن يحميها بقول أمينه العام بأن مخيم نهر البارد في لحظة هيمنة حركة فتح الإسلام عليه، خط احمر.
وكان قرار الحكومة بالمواجهة مع هذه الحركة وتدميرها من أصلها. هذه الحركة التي لو قدر لها ان أن هيمنت على مناطق شمال لبنان، ذات الأغلبية السنية، لكان لبنان أشبه اليوم بالعراق من حيث المواجهة ذات الطابع السني/الشيعي. ولتم تصنيف مناطق شمال لبنان على أنها مناطق خاضعة للإرهاب ولكان طيران التحالف الدولي يقوم بقصفها يومياً.
هذا نموذج لما كان يدبره نظام بشار الأسد مع حزب حسن نصر الله في لبنان من خلق لمنظمات سنية متطرفة من أجل وضع البيئة السنية كلها في هذه المنطقة أو تلك بمواجهة مع المجتمع الدولي. وهذا ما نجح فيه، إلى حد ما، النظام السوري في سوريا وما تم إسقاطه في لبنان بفعل الخيارات السياسية الواضحة .
ان وضوح الخيارات السياسية ماهو إلا تمظهر لوضوح الخيارات الفكرية والثقافية. فنحن تيار ليبرالي بالمعايير الدولية يعتمد العروبة الثقافية كخاص ثقافي في إطار الإنتماء للمشترك الثقافي العالمي. والعروبة الثقافية هي تعبير عن نتاج تفاعل المكونات المجتمعية في العالم العربي، إتنية كانت ( أكراد، عرب، بربر، أمازيغ، أرمن، أشوريون) أم دينية (مسلمون، مسيحيون، يهود، أزيديون وغيرهم).
ولقد كانت جامعة الدول العربية قد أصدرت بياناً عام 1997 بعد مؤتمر القمة العربية في الرياض حددت فيه العروبة بأنها «رابطة حضارية ثقافية». والعروبة الثقافية ذات بعد أيديولولجي إستيعابي، حصري، للتمايزات الثقافية للمكونات المجتمعية كافة في العالم العربي والعروبة الثقافية فعل إسقاط لمقولة الأقليات والأكثرية وبالتالي هي فعل مواجهة مع مفهوم « تحالف الأقليات» الذي قدّم له شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد».
والعروبة الثقافية تم التعبير عنها فيمّا ورد في بيانات الأزهر الشريف بشأن الدولة المدنية، وحرية الضمير، وحرية الإبداع وحقوق المرأة. وعمّا ورد في إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم العربي والصادر أوائل العام الحالي.