وفيّة لثقافتها بعض الأبواق الأسدية في نواحينا. ولا تستطيع سوى أن تعبّر عن تلك الخاصية بالطريقة التي لا تعرف غيرها. وبالمصطلحات المشتقّة، في كل حال، من جذر أساس يضع العنف العاري والضاري، لغة وأداء، في موقع الصدارة والتسيّد!
وهذا يعني وضع سفاهة القول وانحطاط اللغة في موضع السياسة وبديلاً عنها. واعتماد الشتيمة بياناً يُفترض أن يأخذ دور الحجّة الجدالية ويدّعمها! قبل أن يصل إلى الذروة التي تعني أنّ الإلغاء الناري اختصار لكل جدل في لبنان! والمدفع والصاروخ والطائرات الحربية والبراميل المذخّرة هي حل أوّلي وأخير في سوريا!
وهذا أداء أوصل أصحابه في سوريا إلى ما وصلوا (ووصلت) إليه! ولو أمكن هؤلاء لما تردّدوا في إشاعته وتعميمه في لبنان، سوى أنّ «المعضلة» عندنا تكمن في استعصاء البنيان الديموغرافي على القولبة الإذعانية والاختزالية. وغلَبَة الطباع الأولى ذات الصلة الحميمة بالحرّية ومشتقاتها وأنواعها، على التطبّع العابر الآتي من مدوّنة الاستبداد والفرض والأحادية المتسلّطة.. ثم أكثر من ذلك: انتهاء «التجارب» المحلية التي تشبّهت بـ«المحيط البعثي» إلى كوارث صافية لأصحابها كما لغيرهم.
الصخب المسفّ الراهن في قصّة «إعادة» العلاقة الرسمية بالسلطة الأسدية لا يخرج عن مألوف الأداء، الذي سبق أن اختبره اللبنانيون طوال مرحلة الوصاية والنظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، لكنه هذه المرة يبدو بديلاً بائساً عن آفل استنزف قواه وقدراته في مركزه على مدى السنوات الماضيات. ولم يبقَ له سوى العودة إلى طرْق أبواب لبنانية رخوة علّها تعوّضه افتراضاً ما خسره واقعاً.
لم يبلف أحداً الرئيس سعد الحريري. ولم يناور. ولم يعتمد الإبهام والالتباس في موقفه الوطني من موضوع العلاقة بالحكم الأسدي، بل آثر توضيح الموقف منذ البداية وسلفاً، وفجّر عن بُعد أفخاخاً موضوعة على طريق التأليف الحكومي، قبل أن تنفجر هذه بعد التأليف.. والأمر في ذروته ليس تعبيراً عن هوى خاصة (مع أنه يحقّ له ذلك ضميرياً وأخلاقياً وشخصياً..) بقدر ما هو ترجمة لرؤيته للمصلحة اللبنانية الأكيدة التي لا يمكن قياسها في ميزان يضع العلاقة مع المجموع العربي والمجتمع الدولي في كفة موازية للعلاقة مع بقايا سلطة أسدية مُعاقبة ومُحاصرة بفعل جرائمها وارتكاباتها.
وحديث «المصالح» الذي تلهج به بعض الأصوات لتبرير «قضيتها» الأسدية يشبه النكتة غير الموفّقة والمرمية في غير موضعها وأوانها! باعتبار أن الانخراط في قتال السوريين ثمّ التورّط في تأكيد الانتماء إلى الأجندة الإيرانية في معاركها وحروبها العربية والدولية، لا يدلاّن على حرص تام أو نسبي على المصالح اللبنانية تلك. لا بالجملة ولا بالمفرّق! بل المفارقة هي أنه في موازاة التنظير لفوائد غير أكيدة (وجلّها وهمي) من إعادة العلاقة ببقايا السلطة الأسدية، يُصار إلى الإمعان في تهديد فوائد حقيقية للعلاقة مع أهل الخليج العربي عموماً ومع المملكة العربية السعودية خصوصاً!
.. لو «انتبه» بعض الذين يوجّهون النصائح إلى الرئيس الحريري في بيروت، إلى مواقف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في بغداد من العقوبات على إيران، لكان ذلك أفضل لهم وللبنانيين عموماً! ولكان الأمر متآلفاً مع هواهم وارتباطاتهم وسياساتهم و«مصالحهم»!