جاء الاعتذار المعيب والمذلّ، الذي اُجبر عدد من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت على الخروج به بعد قولهم ما يشعرون به حقيقة تجاه الأمين لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وحزبه، ليكشف واقعا لبنانيا اليماً.
يتجاوز هذا الواقع وضع الضاحية الجنوبية ببعيد. هذا الواقع مرتبط بثقافة فرضها «حزب الله» على مناطق لبنانية معيّنة وعلى قسم من اللبنانيين. اسم هذه الثقافة ثقافة الموت ونشر البؤس من اجل التمكن من المواطن وجعله يعتذر بالطريقة التي اعتذر بها، والتي تؤكّد ان لا مستقبل للبنان في ظلّ سلاح غير شرعي تحمله عناصر ميليشيا مذهبية في خدمة مشروع لا علاقة له بلبنان من قريب او بعيد.
ادلى مواطنون لبنانيون شيعة باعتذارهم على شاشات المحطات التلفزيونية اللبنانية بعد مضيّ اقلّ من اربع وعشرين ساعة على مهاجمتهم نصرالله وممارسات «حزب الله» على نحو لا سابق له منذ نشوء الحزب. كان في الاعتذار الذي يظهر بوضوح انّه نصّ معدّ سلفا، تركيز خاص على حذاء حسن نصرالله مع ما يعنيه ذلك لجهة انّه بات رجلا فوق البشر وان المطلوب التعامل معه بصفة كونه ظلّا لـ«المرشد» الايراني علي خامنئي في لبنان.
قبل كلّ شيء، كانت ردّة فعل الناس الذين تضرروا من تحطيم قوى الامن لمحلات اقاموها بطريقة غير مشروعة اكثر من طبيعي.
اعتاد هؤلاء المواطنون الذين يبدو انّهم نازحون الى بيروت من مناطق بقاعية وجنوبية على نمط معيّن من التعاطي مع الدولة اللبنانية ومؤسساتها. انّه نمط مطابق تماما لنمط تعاطي «حزب الله» مع لبنان واللبنانيين الآخرين. عاش هؤلاء في المربّع الأمني الذي أقامه «حزب الله» والذي لا هدف منه سوى تأكيد سيطرته على العاصمة اللبنانية، أيّا تكن كلفة ذلك ان على الصعيد الوطني او على صعيد افقار المواطن اللبناني نفسه، اكان من الجنوب او من البقاع.. او على صعيد افقار بيروت وتحويلها الى عاصمة من عواصم دول العالم الثالث او الرابع او الخامس في احسن الأحوال.
ليس الحادث الذي شهده حيّ السلّم سوى تفصيل في المشهد الأكبر الذي اسمه «لبنان الساحة». ايّ لبنان المطلوب ان يكون بلدا فقيرا وان تبقى عاصمته أسيرة ممارسات «حزب الله» بدل ان تكون المدينة الأكثر ازدهارا على البحر المتوسّط. مطلوب، بكلّ بساطة ان تكون بيروت مدينة بائسة لا رصيف او حديقة فيها… وتحت رحمة سلاح مذهبي غير شرعي، أي ضاحية فقيرة من ضواحي طهران. الهدف من ذلك ان يتمكن أي مسؤول إيراني من القول ان طهران باتت تسيطر على اربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
كانت غزوة بيروت في ايّار (مايو) عام 2008، وقبلها الاعتصام الطويل وسط المدينة، خير دليل عن نظرة «حزب الله» الى العاصمة. استهدفت الغزوة التي ركّزت على اخضاع اهل بيروت وتحويلهم الى مواطنين في الضاحية اذلال المدينة والقاطنين فيها. استهدفت الغزوة عمليا تعميم نموذج الضاحية على لبنان كلّه، خصوصا على عاصمته. استهدفت غزوة بيروت جعل بيروت شبيهة بالضاحية وليس العكس. لذلك، هناك في كلّ وقت تلك النقمة وذلك الحقد على بيروت واهل بيروت وعلى إعادة الحياة الى وسط المدينة. هناك نقمة وحقد على بيروت ووسطها لانّه مكان يلتقي فيه المواطنون من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق في ظلّ القانون وليس في ظلّ سلاح «حزب الله» وشريعة الغاب التي يسعى الى فرضها حيثما حلّ. اكثر من ذلك، هناك سعي الى توسيع تجربة الضاحية بكلّ تخلّفها في كلّ الاتجاهات. من يرى ما حلّ بالشويفات يدرك ذلك.
اولئك المواطنون الذين قالوا في «حزب الله» وامينه العام ما يفكّر فيه كلّ لبناني يمتلك حدّا ادنى من الشعور الوطني، هم بالفعل ضحايا «حزب الله». عمل الحزب منذ قيامه على ان تكون الضاحية نموذجا لكلّ لبنان. لو لم يكن الامر كذلك، لماذا كان اعتراضه على مشروع «اليسار» في ايّام الرئيس رفيق الحريري. هل جريمة ان تدخل التنمية الضاحية وان تتحوّل تلك المنطقة، التي هي في الأصل منطقة عيش مشترك بين جميع اللبنانيين، منطقة مزدهرة مرتبطة كلّيا ببيروت بدل ان تكون وكرا لكلّ ما هو مرتبط بالتخلّف بدءا بانتشار المخدرات وصولا الى البناء العشوائي، حتّى لا نتحدث عن أمور أخرى في مقدّمها الدعارة؟.
حصد «حزب الله» ما زرعه. الكلام الذي صدر عن مواطنين في الضاحية اعتقدوا انّهم فوق القانون، كلام حقيقي. من جعل هؤلاء الناس يشعرون بانّهم فوق القانون وان يقيموا محلات في أماكن محظورة هو «حزب الله» الذي نشر ثقافة فائض القوّة وعمل على تعميمها. لماذا لا يعتدي المواطن على القانون ما دام في حمى «حزب الله» الذي هو نفسه حالة تتناقض كلّيا مع وجود دولة لبنانية يعيش مواطنوها متساوين في ظلّ القانون والدستور؟
من رفض مشروع «اليسار» لم يرد يوما الخير للضاحية واهل الضاحية. من عمل على إبقاء الجنوب ارضا غير مرحّبة باهلها، لم يود يوما عودة ابن الجنوب الى ارضه، بل يريد منه ان يكون في حال خوف دائمة من عدوان إسرائيلي جديد، على الرغم من وجود القرار 1701 ورغبة المجتمع الدولي في حماية لبنان بالفعل وليس بمجرّد الكلام. هل من دليل على ذلك اكثر من وجود الجنود الدوليين في جنوب لبنان؟ مثل هذا الخوف من المستقبل يجعل ابن الجنوب يفضّل الضاحية على العيش في منطقة كان يمكن ان تكون من الأكثر ازدهارا في لبنان والشرق الاوسط كلّه. لماذا حرمان ابن الجنوب من العودة الى ارضه والعيش فيها بامان. هل يبرر ذلك رغبة ايران في إبقاء جبهة الجنوب ورقة مساومة في اللعبة الإقليمية على حساب لبنان واللبنانيين؟
ما ينطبق على الجنوب، ينطبق على البقاع أيضا. يكفي ما فعله «حزب الله» بمدينة مثل بعلبك التي كان يمكن ان تكون قبلة السيّاح في العالم للتأكد من الرغبة في نشر البؤس حيث امكن وتحويل المواطن في الضاحية والجنوب والبقاع اسير ثقافة معيّنة تجعله رهينة لدى الحزب لا اكثر.
كشف حادث حيّ السلّم الكثير. كشف اوّل ما كشف انّ لا افق للمشروع السياسي والعسكري لـ«حزب الله». كيف يمكن لمشروع قائم على ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية والتضحية بشبّان لبنانيين من اجل ان ينتصر النظام السوري على الشعب السوري إرضاء لإيران ان يوفّر نافذة ما على المستقبل.
مرّة أخرى، يجد لبنان نفسه عند مفترق طرق. هناك بكلّ بساطة حرب يشنّها «حزب الله» على لبنان واللبنانيين. جاء ما حدث في الضاحية ليؤكّد ان هذه الحرب لا يمكن ان تنتهي بانتصار للحزب، أي بانتصار لإيران، على لبنان. هناك لبنانيون ما زالوا يقاومون. من بين هؤلاء بعض أهالي الضاحية. شعر هذا البعض أخيرا انّه ضحية من ضحايا «حزب الله» ومشروعه الذي ادخل البلد في طريق مسدود، طريق ثقافة تقبيل حذاء الزعيم، المكملة لثقافة الموت والبؤس، والتي تختزل كلّ ما يريده «حزب الله» للبنان واللبنانيين ولمستقبل أولادهم.