عرّى تقرير اللجنة المستقلة التي حققت في ظروف التورط البريطاني في حرب العراق رئيس الوزراء السابق توني بلير الذي بقي في هذا الموقع عشر سنوات، بين 1997 و 2007.
كشف التقرير الذي وضعته اللجنة التي تشكلت قبل سبع سنوات وكان على رأسها السر جون تشيلكوت مدى تورط بلير في حرب كانت لها نتائج كارثية على العراق نفسه وعلى منطقة الشرق الاوسط والعالم، خصوصا في ظل العجزين الاميركي والبريطاني عن فهم ما هو العراق وما انعكاسات الحرب على البلد نفسه وعلى التوازن الاقليمي. لعلّ اهمّ ما كشفه التقرير الذي يتضمن مليونين وست مئة الف كلمة كم ان بريطانيا تجهل الشرق الاوسط. تأكد ذلك من خلال التشديد في الموجز عن التقرير الذي تلاه تشيلكوت نفسه على ان الاعداد للحرب كانت تشوبه نواقص، كذلك الاعداد لمرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين. دخل البريطانيون حربًا من دون إعداد كاف لها، ثم راحوا يعيدون اكتشاف العراق واهمّيته على الصعيد الإقليمي، خصوصًا بصفة كونه حاجزًا في وجه المشروع التوسّعي الايراني.
في الدفاع عن نفسه، تحدّث توني بلير عن «حسن نيّته»، مركّزًا على ان «اطاحة صدّام حسين ليست سبب الإرهاب الذي نشهده الآن». نعم، كان هناك إرهاب في ايّام صدّام حسين. لكنّ الحقيقة ان هذا الإرهاب تزايد بعد اطاحته. نعم، كانت احداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 قبل سقوط الديكتاتور العراقي، ولكن هل قضى التخلّص من صدّام على «القاعدة»؟ على العكس من ذلك، زاد نشاط تنظيم «القاعدة» على الرغم من اغتيال أسامة بن لادن في باكستان. اكثر من ذلك، وُلد لـ»القاعدة» أبناء شرعيون من «داعش» وغير «داعش» وولدت في العراق تنظيمات إرهابية شيعية مدعومة ايرانيا تقلّد «القاعدة» و»داعش» لا همّ لها سوى تنفيذ عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في كلّ انحاء العراق. هل كان ذلك موجوداً قبل احتلال بغداد في ابريل من العام 2003؟ لم يكن ذلك موجودا، على الرغم من انّ ما لا بد من الاعتراف به ان علاقات بدأت تنشأ في الايّام الأخيرة من عهد صدّام بين اجهزته وارهابيين من نوع «أبو مصعب الزرقاوي».
ليس الموضوع موضوع هل كان يجب التخلّص من نظام صدّام حسين ام لا؟ لا يختلف عاقلان على ان النظام العراقي السابق كان نظاماً لطخ يديه بدماء العراقيين من شيعة وسنّة واكراد واقدم على مغامرات مجنونة من نوع الدخول في حرب واسعة مع ايران في العام 1980 بدل التفكير في وسائل لتجنب هذه الحرب ودرء الخطر الايراني عن العراق نفسه وعن الخليج العربي كلّه. كذلك اقدم النظام العراقي على احتلال الكويت في الثاني من أغسطس 1990 غير مدرك لخطورة مثل هذه الخطوة التي تنمّ عن جهل بما يدور في العالم اكثر من ايّ شيء آخر. ولكن ما لا يختلف في شأنه عاقلان أيضًا ان التخلص من النظام العراقي السابق كان خطوة غير مدروسة كشفت جورج بوش الابن كما كشفت توني بلير.
تحدّث التقرير مرّات عدة عن انّ كل الحجج التي ساقها بلير من اجل تبرير الحرب على العراق والمشاركة فيها لم تكن قانونية. لجأ الى الحرب قبل «استنفاد كل الوسائل الأخرى»، خصوصاً انّه تبين ان العراق لم يعد يشكل خطرًا على العالم او على جيرانه وان كلّ الكلام عن «أسلحة الدمار الشامل» التي يعتقد انّه كان يمتلكها لم يكن صحيحًا.
مرّة أخرى لا يمكن تبرير الحرب على العراق بضرورة التخلّص من صدّام حسين، خصوصًا انّه كان في الإمكان «احتوائه» لمرحلة معيّنة تفاديًا لحصول ما حصل، أي تسليم العراق على صحن من فضّة الى ايران. كان لا بدّ من التخلّص من الديكتاتور العراقي ولكن بطريقة أخرى، خصوصًا انّه كان يشكّل في كلّ وقت خطراً على العراقيين قبل ايّ شيء آخر.
لعلّ اخطر ما في التقرير امران. الاوّل ان بلير وعد جورج بوش الابن قبل ثمانية اشهر من الحرب بالسير معه «أيًّا تكن الأحوال». بعد ذلك، راح الاميركيون والبريطانيون يلفقون مبررات للحرب. شارك في عملية التلفيق هذه شخص مثل كولن باول وزير الخارجية الاميركي وقتذاك الذي ما لبث ان اعترف باخطائه.
امّا الامر الآخر الخطير، فهو مدى جهل بريطانيا بما يدور في الشرق الاوسط وفي العراق تحديداً، إضافة بالطبع الى عجز بلير عن تفنيد التقارير التي قدمتها له أجهزة المخابرات البريطانية والتي صورت له حرب العراق وكأنّها نزهة. انتهى الجيش البريطاني، على حد ما ورد في التقرير، يفاوض ميليشيا شيعية في جنوب العراق من اجل اطلاق اسرى له. هل من اذلال اكثر من هذا الاذلال لجيش عريق يمتلك تاريخاً حافلًا بالبطولات والانتصارات؟
يقول مسؤول عربي كبير، حاول صيف العام 2002 جعل بوش الابن يفكّر مليا في النتائج التي ستترتّب على خطوة من نوع اجتياح العراق، ان الرئيس الاميركي ردّ عليه بانّ «الله كلّفه هذه المهمّة». كان جواب بوش الابن كفيلًا بوضع نهاية للحوار بين الرجلين. يضيف هذا المسؤول انّه ابدى، في وقت لاحق، ارتياحه لتولي الجيش البريطاني مسؤولية جنوب العراق، بما في ذلك مدينة البصرة، الى ان كتشف ان البريطانيين لا يعرفون شيئا عن المنطقة وعشائرها علما انّه سبق لهم وكانوا سلطة الاحتلال فيها في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. اكتشف هذا المسؤول فجأة ان بريطانيا التي كان يعرفها في الماضي لم تعد على علاقة ببريطانيا التي يتولى توني بلير موقع رئيس الوزراء فيها. كلّ ما كان يريده توني بلير هو استرضاء الحليف الاميركي بغض النظر عن ثمن ذلك.
فنّد تقرير تشيلكوت بدقة ليست بعدها دقّة الأخطاء التي ارتكبها توني بلير وحكومته وكيف تجاوز كلّ المعترضين على الحرب من داخل الحكومة بوسائل اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها ملتوية. لم يبرر التقرير الحرب بقوله انّه كان من الضروري التخلّص من صدّام حسين، لكنّ الملفت انه كاد في المقابل ان يصف رئيس الوزراء السابق بانّه «مجرم حرب» لا اكثر.
صدر التقرير في وقت تعيش بريطانيا ظروفاً في غاية الصعوبة بعد الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي الذي اظهر انقسامًا على كلّ المستويات في المملكة المتحدة. بلغ الانقسام الحزب اليميني (حزب الاستقلال للمملكة المتحدة) الذي سارع زعيمه نايغل فراج الى الاستقالة من رئاسة الحزب. تشبه استقالة فراج، الذي قاد حملة الخروج من الاتحاد الاوروبي، القاء قائد سفينة لنفسه في البحر بعدما ايقن ان هذه السفينة تغرق…
كم بدا حجم توني بلير صغيراً من خلال تقرير تشيلكوت. لم يستطع الدفاع عن نفسه باي شكل. كلّ ما فعله انّه كشف مرّة أخرى انّه ليس سوى سياسي انتهازي ادرك في مرحلة معيّنة ان عليه ان يكون على يمين حزب المحافظين في حال كان يريد الانتصار عليه في الانتخابات العامة. لذلك اخترع تسمية حزب «العمال الجديد» في معركة العام 1997. حاول تقليد مارغريت ثاتشر. نجح في ذلك طويلاً الى ان جاءت حرب العراق لتكشف انّ لا علاقة له بثاتشر التي كانت تؤثر في الرؤساء الاميركيين وترفض ان تكون تابعة لهم. ستظل لعنة العراق تلاحق توني بلير، لا لشيء سوى لان اخطاءه «أدت الى تدمير بلد بكامله ولم تحقّق أي نتيجة إيجابية» على حد تعبير والد لضابط بريطاني في الرابعة والثلاثين من العمر قتل في جنوب العراق…
هل كان مطلوباً الخلاص من صدّام حسين، ام الخلاص من العراق، وهو ما حققته بالفعل الحرب الاميركية – البريطانية – الايرانية؟