في ذكرى 100 عام على «سايكس- بيكو»، المفاجأة الأولى كانت اهتزاز الكيانات التي صنَعها هذا الاتفاق في الشرق الأوسط. لكنّ المفاجأة الثانية تبدو أكثر دراماتيكية: ليس المصنوعُ وحده هو الذي يهتزّ، بل الصانعُ أيضاً. وبريطانيا قد تكون أوّل الغيث في سلسلة طويلة.
يقول البعض: إنها لعنة الشرق الأوسط تصيب أوروبا التي صنعت كياناته على قياس مصالحها، ولاسيما بريطانيا التي خلقت إسرائيل بوعدِ بلفور؟
ومع أنّ اللجوء إلى القَدَر لا يصلح للقراءة السياسية، فمن الواقعية القول إنّ مأزق الشرق الأوسط كان حاضراً في قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي.
والتحوُّلات العميقة الحاصلة والمتوقعة في أوروبا والولايات المتحدة والعالم مرتبطة بالتحوُّلات الجارية في الشرق الأوسط منذ اندلاع «الربيع العربي» في 2010.
فهناك عنصران شرق أوسطيان دفعا البريطانيين إلى تغليب فارق الـ1.9 في المئة المؤيّد للانفصال:
-1 «فوبيا» اللاجئين والإرهاب وعجز القارة العجوز عن مواجهتها في شكل قاطع.
-2 الابتزاز التركي لأوروبا، المرتبط أيضاً باللاجئين، والخوف من مفاعيل دخول تركيا إلى الاتحاد.
يمكن القول إنّ الكيانات العربية التي خلقها البريطانيون والفرنسيون قبل 100 عام على رقعة الجغرافيا تهاجمهم اليوم بفَيْضٍٍ من الديموغرافيا.
ويمكن القول إنّ إسرائيل التي خلقتها بريطانيا وفرنسا قبل 70 عاماً، تقاتل ضد أوروبا- وفرنسا خصوصاً- لأنها بقيت دائماً تلتزم ثوابت السلام التي تتناقض ومشروعها الشرق أوسطي.
ويتلقّى دعاة الانفصال البريطانيون، والأوروبيون عموماً، دعم اليمين الإسرائيلي المتطرِّف لأنّ أوروبا، ولاسيما الكاثوليكية والفاتيكان، بقيت تنادي بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وفي العودة. وهذان البندان ترفضهما إسرائيل بالمطلق.
وكأنّ الشرق الأوسط يحاسب اليوم أوروبا: العرب ينتقمون بواسطة اللاجئين، ولكن بلا مبرِّر منطقي. أما إسرائيل فهي تستفيد من إسقاط «أوروبا المزعجة»، والعودة إلى التعاطي بالمفرّق مع الأوروبيين، بعدما أنجزت اتفاقاتها مع روسيا بوتين وواشنطن ما بعد أوباما، أيّاً يكن الرئيس الآتي، وتفاهَمت مع تركيا.
وأوروبا التي مجَّدت «الربيع العربي» قبل 6 سنوات، ومجَّدت «الربيع السوفياتي» قبل ربع قرن، تبدو مقبلة على ربيعها أيضاً. وملامح «الربيع الأوروبي»، هي أيضاً، ربما تتضمّن زعزعةً لدول ونشوء دول أخرى، كما حدث مع نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات عندما تداعت المجموعة الاشتراكية ومعها تفكَّكت كيانات، على البارد أو بالنار والدم (الاتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا).
اليوم، مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ظهرت 4 خلاصات خطرة جداً:
-1 إنّ «دومينو» الاتحاد الأوروبي معرَّض فعلاً للانهيار بسقوط إحدى ركائزه الثلاث الأساسية (بريطانيا- فرنسا- ألمانيا).
-2 إنّ بريطانيا نفسها ربما تكون قيد الاهتزاز. فاسكتلندا وإيرلندا الشمالية اللتان اقترعتا للبقاء في الاتحاد، واللتان تنمو فيهما نزعة الانفصال عن بريطانيا، ستكون لهما مبرّرات أقوى للذهاب فيها بعيداً.
-3 إنّ القوى اليمينية المتطرّفة، أي ذات النزعات الانفصالية عن أوروبا، في كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي باتت اليوم أقوى وأكثر ثقة بأنها تستطيع بلوغ أهدافها، وسارعت إلى المطالبة باستفتاءات مماثلة (فرنسا وهولندا في الطليعة).
-4 إنّ المزاج الأوروبي الجديد ستكون له انعكاسات، إيجابية أو سلبية، على مزاج الناخبين الأميركيين قبل 4 أشهر من المعركة الانتخابية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب الذي تلقّى الخبر البريطاني سعيداً وهو في أرض المعركة في اسكتلندا، موطن والدته.
كلّ هذه المخاطر تعصف بأوروبا وكياناتها فيما كانت حتى اليوم تُنصِّب نفسها راعية للتسويات- أو للصراعات- في الشرق الأوسط. ولذلك، يجدر السؤال: بعد ظهور علامات التحلُّل في الجسم الأوروبي، ماذا سيفعل موفدو أوروبا إلى الشرق الأوسط؟ وبناءً على أيّ رصيد سيتقدّمون بطروحاتهم السياسية، وسيدافعون عن أيّ مصالح؟
من المبكر الحديث عن انهيار أوروبا. فانفجار المجموعة الاشتراكية استغرق أعواماً. لكنّ المؤكد أنّ الزمن الأوروبي آخذ في الأفول أكثر فأكثر. ومن سخريات القدَر أن ينتهي زمن المستعمِرين والمستعمَرين معاً. ولكن، من المؤكد أنّ العرب سيبقون تحت رحمة الاستعمارات الجديدة، وأنهم سيترحَّمون على الاستعمار الأوروبي «الإنساني» عندما يتذوّقون مرارة الاستعمار البديل، الذي تقوده إسرائيل بيدها مباشرة.