Site icon IMLebanon

ملاعين

كما رجال السياسة في لبنان، صغاراً كنا نختلف تقريباً على كل شيء. لم نكن نخطط لأكثر من مغامرة واحدة ليوم واحد، وبعد أخذ وردّ ووفاق ورفض، قررنا ذاك الصباح أننا سنفاجئ الحرج تحت ملعبنا الواسع الذي طالما جعلناه مسرحاً لكل ما مرّ في خيالنا أثناء عطلة صيف طويلة: أحياناً هو مدرسة وتلاميذ وأساتذة، وأحياناً ضمناً عسكراً ولصوصاً، وأحياناً يسجّل مغامرات عاطفية بريئة تقتصر على تبادل نظرات إعجاب تحمل أسراراً لا يفهمها الصغار… حتى هذا الصباح لما حملنا عيداناً طويلة ونزلنا الى الوادي لنكتشف ماذا يخبئ لنا.

وكلما بعدنا عن مسرحنا، ورغم خلافنا الصاخب الذي بدأنا به لقاءنا، كنا نقترب بعضنا من البعض، فغربة الطريق جعلتنا نحتمي بما بيننا من ألفة حقيقية. وكان هناك اكتشاف لازهار برية ولشجيرات مزهرة، ولمّا نتعب نجلس لنشرب، ولنأكل أطايب حملناها معنا. وكنا ننشد أغاني تعلّمناها في مدرستنا، بنات وصبياناً يحبون المغامرة، تمتعنا بحرية اختيار المكان المناسب لتحقيق أحلامنا، أما الزمن فكان يحدده الأهل: ترجعون عند الساعة الثانية عشرة قبل موعد الغداء.

وبلغنا شجرة باسقة كانت جذورها في الوادي وأغصانها تظللنا، وعلى جذعها ما يشبه البيت أو الجدار المنفوخ، وبه نوافذ كثيرة تخترق لونه الرمادي كأنه من طين. ووقفنا أمامه في حيرة، وقال فؤاد: هذا بيت نحل لا تلمسوه، وبيننا مغامرون لا يخافون حتى اللمس.

كان صمت ثم قالت البنات: لا نريد أن نتعرض لعقصات النحل، وللصبيان رأي آخر، ووقع الخلاف من جديد، تماماً كأهل السياسة. لا تلمسوا حيوانات الغابة، وإياكم الأفاعي، قالت الأمهات. ما لنا وللأمهات، قال صبي، لا نريد أن يتدخل بنا الخارج. وتقدم ونقر على الجدار الرمادي، مرة، مرتين، وثالث مرة خرجت من النوافذ المستديرة غيمة سوداء ترنّ بغضب أو بخوف أو بفرح من أطلق سراحه الى الحرية.

وركضنا عائدين الى بيوتنا ولحقت بنا غيمة الزراقط التي طارت فوق رؤوسنا حتى بلغنا منازلنا. دارت من بيت الى بيت ولا أذكر أننا تعرضنا لعقصاتها، فقط أخافتنا كما أخفناها لما دققنا بابها. واستقبلنا الأهل بما يليق بنا من كلام قاس وقصاص يختلف من بيت الى آخر. وكالعادة لم نخطط برنامج اليوم التالي…

هل حافظ نوابنا ووزراؤنا وكل من يتحكم بمصيرنا على طفولة مغامرة لا تحسب حساب الغد؟ كلا، فما بهم ليس طفولة متجددة، بل تنافس على كل ما يملأ فراغهم الداخلي المرضي، والكل ينتمي الى طينة الضمير الملعون اللامبالي، الساقط في فخ المال الحرام على مدى تاريخ الإنسان، وزعماؤنا ومن يتبعهم من fans في قعر الفخ اليوم.