“بلاك مونداي” بدأ حيث انتهى “بلاك فرايداي”
وفي “إثنين الإنترنت” (Cyber Monday) تجدّدت بعض ملامح الغضب بين “أهل البلد”، الذين بدل أن يهرعوا في “الجمعة السوداء” (بلاك فرايداي) وراء الحسومات والتنزيلات والوعود بأسعار “غير شكل” كانوا يحسبون، في آخر الشهر، آخر ما تبقى لديهم من “قروش بيض” لسداد ثمن قارورة غاز وربطات خبز وأدوية سكري وضغط وأعصاب. لحقنا اللبنانيين في الجمعة السوداء “ع الدعسة” فوصلنا الى “بلاك مونداي”!
إذا خلطنا الأسود والأبيض نخرج بالرمادي. والرمادي عديم اللون، حيادي، بلا نكهة، ويثير الإكتئاب. لذا، لا بُدّ من الإختيار “يا أبيض يا أسود” وإلا استمرّ الإنزلاق حتى القعر. اللبنانيون جددوا أول من أمس عهد الثورة. “كتار قلال” لا يهم، الأهم أن هناك من عاد يصرخ: خلَص بقا.
منذ أن احتفى الأميركيون بعيد الشكر، وتناولوا الديك الرومي، وهواتفنا “تطن” صبحاً ومساء بإعلانات البلاك فرايداي. هو اليوم المنتظر في كل مكان في العالم، إلا في دولٍ عددها أقل من أصابع اليد الواحدة، بينها طبعا: إيران. نعم الدول التي تعارض الرأسمالية والنزعة الإستهلاكية لا تدعم “الجمعة السوداء” ولا أي عطلة تسوّق أخرى. كوريا الشمالية من هذا الرأي ومثلها فنزويلا وأفغانستان وإيران. لذا، أيها اللبنانيون إبتسموا ولو في سرّكم أنكم تمكنتم هذه السنة من أن تعيشوا “رهجة” البلاك فرايداي ولو بجيوب فارغة. فمن يدري ماذا قد يحصل لنا (ومعنا) السنة المقبلة ما دمنا نتوغل في العصر الإيراني؟!
أول من أمس كان يوم التخفيضات عبر الإنترنت “سايبر مونداي” لكننا تسمّرنا من جديد امام مشهد طالعنا منذ الصباح بانتفاضة من ينتظر اطفالهم طبخة البحص ويغفون على أمل ان تستوي. فماذا حدث قبلها؟ هل اشتريتم؟ النبأ السار هنا أن كثيرين من موظفي الدولة، إثنان منهم في وزارة الإعلام، سارعوا الى لملمة بعض المال لشراء تلفاز بسعر مئة دولار أميركي. هؤلاء تحصنوا لأيام عجاف آتية بتلفاز يسلّي أطفالهم قليلاً في مواجهة أزمتين تنذران بأن الآتي أعظم: كورونا الطاحشة علينا واقتصاد ومال منهاران. يحقّ لهؤلاء ان يشتروا. لكن هل يحق لهم ان يفعلوا ذلك وهم يعملون طوال الشهر بخمسين دولاراً اميركياً؟ هم مجانين؟
صمود مذهل
الإختصاصية في علم النفس والمعالجة النفسية أييدا القرقفي أخبرتنا عن المرونة النفسية التي يتحلى بها اللبناني وسمحت له بالصمود تحت “السوط” و”الجلد” و”الجوع” و”القهر”. وشرحت “اللبنانيون الذين يجوعون يذهلون العالم بصمودهم. هناك من يصرّ على السهر. وهناك من هرولوا في “الجمعة السوداء” وراء العروضات. وهذه ربما حلاوة اللبناني “المرن نفسياً”. هذا اللبناني الذي يتباهى بأنه “كيف ما زتّوه زتوه بيجي واقف”. هو يحاول التمسك ببعض خيوط الحياة ليقف على قدميه على الرغم من كل التحديات التي تحوط به. هو الذي طالماً انتظر ساعات طويلة امام محطات الوقود وعاد بعدها الى عمله ليبقى منتجاً. وتلك المرونة ضرورية ليس للقول أن الوضع “تمام” بل للتمكن من الصمود في الوقت الصعب للأوقات الأكثر صعوبة. اللبناني يستمر، من خلال خاصية المرونة النفسية التي يتحلى بها في وضع الخطط التي تمنحه بعض الأمل بتقليل الأضرار النفسية عن حاله”.
رهيبٌ أنت أيها اللبناني. قويٌ أنت. لكن الى متى؟ ثمة أطفال، بحسب إستطلاع اليونيسف، ينامون ببطون خاوية. وهناك طفل في طرابلس داخ ووقع أرضاً لأنه لم يتناول وجبة طعام قبل يوم كامل. ثمة مسنّة توفيت بعد أسابيع على توقفها عن تناول الدواء لصعوبة الحصول على ثمنه. نحن في وضع لا يستهان به ابداً. وهناك من يصر بعد على القول أننا لا نزال في مرحلة “اللوج”. والآتي أعظم.
كيف عشنا “البلاك فرايداي”؟ عروض مخادعة
رنّت هواتفنا كثيراً آخر سبعة أيام بإعلانات التخفيضات على الأسعار. كل محال الأدوات الكهربائية والإلكترونية شاركت في العروض. ومعلوم ان ثمة علاقة وثيقة بين الراحة النفسية والشراء. ثمة مشاعر جارفة لدى الناس عموماً تدفعهم الى الشراء. ثمة مساحة حاولنا ان نتمسك بها “بلكي” نستعيد بعض مرونتنا النفسية. لكن، هل العروضات كانت حقيقية؟ بالطبع لا. ثمة فرن غاز عُرض في محل اعلن عن “البلاك فرايداي” بمئتين وستين دولاراً. وعُرض نفسه بصالة أخرى بمئتين وأربعين دولاراً. أما سعره في مستودع لا صالة عرض لديه ولم يشارك بالعروضات فكان مئة وثمانين دولاراً. الأسعار، بدت كما كل شيء في لبنان، مجنونة، لا أساس لها ولا دستور. أمرٌ آخر جعل آخر أسبوع في لبنان أشبه بهستيريا وهو الكلام عن رفع الجمارك في البلد. فالأسعار، بغض النظر عن “الجمعة السوداء” ستُصبح في المطلق “سوداء”. والغسالة التي نشتريها اليوم بثلاثمئة دولار سنضطر الى الإحتفاظ بها بعد أن يتضاعف سعرها مرات بعد عشر سنوات على الأقل. ألم يعدوننا بسنوات عجاف قاسية؟
العالم هرول الى متاجر “وول مارت” للشراء. ونحن هرولنا وراء ما تبقى من آمال نصرّ أن نتحصن بها. الصابون دخل في المشهدية العامة عندنا على نقيض كل المواد الأخرى. مع كل غالون صابون نصف غالون مجاني. ومع كل دزينتي قشقوان ربع دزينة مجانية. ومع كل كيلوغرام من اللحم المفروم نربح في “البلاك فرايداي” أوقية من اللحم مجانية. هو عرضٌ بات يداعب في بلادنا الأحلام. لعن الله من أوصلنا الى هذا المنحدر.
دلّل نفسك
“الجمعة السوداء” ترافقت في بلدنا مع تحليق للدولار في “السوق السوداء”. 25 ألف ليرة للدولار الواحد. هي جهنم الحمراء. بوكينغ دوت كوم أعلنت هي أيضا عن عروضاتها: الليلة الواحدة في فندق بلازا في بيروت 34 دولاراً بدل 57 دولاراً. والليلة الواحدة في راديسون بلو مارتينيز 108 دولارات. والليلة في فندق رويال 178 دولاراً. وفي كومودور الحمراء 65 دولاراً. وفي لانكستر 227 دولاراً… هي عروضات لن تعنينا نحن أولاد هذا البلد الفقير الى أجل غير مسمى.
المعلنون في لبنان أخطأوا في صياغة أفكارهم. فماذا يعني قول متجر إلكترونيات للمواطن اللبناني: دلّل نفسك واشتر مع حسومات تصل الى 50 في المئة؟ كلمة الدلال لم يعد لها معنى في قاموس إبن البلد. كان يفترض أن يُستعاض عنها بكلمة: “فش خلقك”. إعلانات زراعة شعر والفيلر والبوتوكس دخلت هي أيضا على الخط، في وقتٍ بالكاد تستطيع فيه المرأة اللبنانية، المودرن (العصرية)، أن تصبغ شعرها. ليبان بوست شارك بدوره في “الجمعة السوداء” والعروضات: بطاريات بأقل ثمناً. وقجة أصبح سعرها 21 ألفا بدل 30 الف. لكن، ما حاجة اللبناني الى القجة؟ ماذا لديه بعد ليضعه فيها؟
أول من أمس، مع انطلاقة “البلاك مونداي” المتجدد في لبنان، إنطلق صباحاً عالمياً “السايبر مونداي”. نجول على المواقع الإلكترونية اللبنانية التي جدّدت “أيامها السوداء” حتى آخر الشهر مواقع يرتادها اللبنانيون بكثرة: “وين أرخص”. و”نقليات أبو الفقراء” و”أغراض مستعملة للبيع”، و”باليه على أذواقكم”، و”هواتف مستعملة” و”سيارات مستعملة تحت 1800 دولار”… إثنين الإنترنت في لبنان بات على قدّ اللبناني وفق قاعدة “ع قدّ بساطك مدّ إجريك”.
عادت عروضات سيارات الهوندا أكورد موديل 1983 ورينو 5 موديل 1981 وغولف موديل 1986. ولّى زمن “الفخفخة” والسيارات الرباعية الدفع وآخر موديلات الآيفون. كم تبدلت حالنا في عامين؟ أهل العالم جلسوا البارحة أمام الإنترنت لالتقاط العروضات أما هنا فجلسوا طلباً لنجدتهم بدواء. نيكسيوم مقطوع. والبديل عن دواء القرحة esostom. دواء السكري calvus met سعره في لبنان 434 الف ليرة اما في تركيا فتشتري إثنين بسعر واحد. بلاك فرايداي من نوع خاص جداً. ثمة “بلاك فرايداي” أيضا على الرز البسمتي: 4 كيلو بمئة وخمسين ألف ليرة بدلاً من 200 ألف ليرة. أحدهم راح يبحث بالسراج والفتيلة في “إثنين الإنترنت” على زيت قلي سائلا: “وين بلاقي غالون زيت للقلي سعر منيح؟”. لوهلة خلناه يطلب عروساً أو شقة أو سيارة. وانهالت الردود عليه: في بليبل، في عنيد بساط، في سوق الخير، في لومير الكفاءات، في سوبرماركت عمر صعب…
ننتقل الى نقليات الفقراء في “إثنين الإنترنت”. صاحبها يعلن عبر “الأونلاين” عن أسعاره: من طرابلس الى بيروت 850 ألف ليرة. ومن طرابلس الى صيدا مليون ليرة. لا، لا تستغربوا. فاللبنانيون ما عادوا فقراء بل أصبحوا في عداد “الفقر المدقع” وما دون كل خطوط الفقر الحمراء.
أمس، آخر الشهر. إنتهى “بلاك فرايداي” في العالم. أما هنا، في لبنان، فالسواد هائل. السواد مستمرّ اللهمّ ان لا يحتفل الأميركيون في عيد الشكر 2022 ونكون نحن، من صمدنا في هذه البقعة الجغرافية من الكرة الأرضية، ما زلنا نحيا السواد بعد السواد بعد السواد… والقصّة، على ذمة مروجي البلاك فرايداي في بلادنا “ما فيها مزح”.