فساد من كل صوب، وأزمة تضيق عليهم الخناق، أعداء من حولهم وبحر من أمامهم فأين المفر؟ المفر ليس بعيداً، وجده اللبنانيون مرة جديدة في الجزيرة الصديقة التي طالما استقبلتهم في أزماتهم. قبرص التي عاشت أزمة مماثلة لأزمة لبنان منذ بضع سنوات، فهمت معاناة اللبنانيين وفتحت لهم أبوابها فهربوا بأموالهم وبأرواحهم وبأبنائهم من جحيم لبنان اليوميّ وقيود مصارفه وغياب كهربائه وضبابية حاضره ومستقبله الى ملاذها الآمن فأفادوا واستفادوا.
بين قبرص ولبنان تاريخ يعود الى حوالى ألف سنة، فأول هجرة لبنانية الى قبرص كانت من شمال لبنان منذ 1100سنة حيث استقر المهاجرون الشماليون الموارنة في شمال الجزيرة وأعطوا اسماء قراهم لقرى أنشأوها هناك فصارت كور البترونية كورماكيتي القبرصية، وهناك سكن الموارنة وصاروا جزءاً من النسيج القبرصي وانشأوا لهم أبرشيات وكنائس. ومنذ ذلك الحين نُسجت عادات مشتركة بين الشعبين كلبس الشروال ووضع “القمطة” على الرأس وجمعتهم ثقافة متقاربة. وعلى مر القرون بقيت قبرص ملجأ للبنانيين تستقبلهم كلما عصفت أزمة ببلادهم.
تاريخ قديم وثقافة مشتركة
في بداية الحرب اللبنانية (1975)شكلت الجزيرة المضياف ملجأ للهاربين من أهوال الحرب يقصدونها بالسفن تحت جنح الظلام ويستقرون بحثاً عن الأمان في أرجائها المتواضعة وكذلك في عامي الحروب الأخوية (1989و1990) ومن ثم خلال حرب تموز من العام 2006 ومؤخراً مع انفجار أزمة لبنان المالية والحياتية السياسية. وكأن قبرص القريبة باتت في الوجدان اللبناني ردة الفعل الطبيعية التي إليها تتجه أفئدة اللبنانيين مع كل أزمة. ويقول العارفون بالوضع القبرصي أن استقطاب الجزيرة للبنانيين ازداد مع دخولها الى المجموعة الأوروبية وسعيها الى الانضمام الى الشنغن ومع وجود نظام مصرفي واقتصادي متين فيها اثبت أهليته بعد الأزمة التي واجهتها في العام 2011 وأثّرت على كل القطاعات فيها. قبرص استطاعت الخروج من أزمتها بعد وضع حكومتها لخطة إصلاحية التزمت بها بكل فعالية وشفافية واليوم يمكن للجزيرة ومسؤوليها أن يتبجحوا بإنجازات عظيمة ونهضة نوعية استطاعت استقطاب مستثمرين من الصين وروسيا وبلدان اخرى لتنمية مختلف مدن الجزيرة. على أبواب الشرق الأوسط وافريقيا و أوروبا أجادت قبرص لعب دورها كوسيط بين القارات الشعوب والدول وتفوقت على لبنان الذي كان يوماً يتولى هذا الدور.
وكما وجد الروس والأوروبيون والصينيون وغيرهم فرصاً في الجزيرة الناهضة هكذا استطاع اللبنانيون الهاشلون من جحيم بلدهم إيجاد دور ومكان لهم على أرض الجزيرة فثبتوا حضورهم في مجالات عدة، واكتفى بعضهم باتخاذها ملجاً لهم ولأبنائهم يؤمن لهم الحياة اللائقة والمستقبل الآمن الذي لم يعد لبنان قادراً على توفيره.
هذه الرؤية الشاملة للوضع القبرصي يشرحها لـ”نداء الوطن” مؤسس شركة Finance and beyond ومديرها التنفيذي ريشار الحاج موسى الذي دخل السوق القبرصي منذ العام 2015 وعرف كل خفاياها وتفاصيلها المالية والانمائية والمصرفية ويقول أن عدد اللبنانيين الموجودين في قبرص اليوم يقدر بـ 60000لبناني يتوزعون في مختلف مدنها وقد ازداد عددهم حوالى 50000 شخص في السنتين الأخيرتين بعد ان كان العدد لا يتجاوز 10000. فكاهن رعية مار يوسف المارونية في لارنكا لم يكن في كنيسته إلا ولدين فقط للقربانة الأولى في العام 2016 أما السنة فقد بلغ العدد 12 ولداً ويتوقع ان يرتفع الى 30 العام المقبل وكذلك دفع إقبال العائلات اللبنانية على تسجيل أولادها في مدرسة الليسيه الفرنسية (وهي المدرسة الفرنسية الوحيدة في الجزيرة )إدارة المدرسة في نيقوسيا إلى الانتقال الى مبنى أكبر بعد انضمام حوالى 400 تلميذ جديد إليها إثر اتخاذ الكثير من العائلات اللبنانية من قبرص بعد العام 2019 مقراً لها.
وتروي السيدة فاليري شحود وهي مقيمة في قبرص منذ العام 2015 أن اللبنانيين قادرون على التأقلم بسهولة مع الحياة في قبرص لأن الشعب القبرصي مضياف ومسالم وتتميز الجزيرة بدرجة عالية جداً من الأمن والأمان وتوفّر لساكنيها الكثير من أسباب الرفاهية وحلاوة العيش. وتضيف أنه رغم غلاء المعيشة في قبرص كونها تعتمد اليورو إلا أن معظم العائلات اللبنانية من أصحاب الدخل المحدود الذين قصدوا الجزيرة مؤخراً ولا سيما بعد أزمتي البنزين والكهرباء هذا الصيف والخوف من عدم فتح المدارس تمكنوا من الاستقرار فيها وتدبر أمر معيشتهم بشكل مذهل وحتى العمل فيها “من تحت لتحت” بطريقة غير رسمية من البيت او عبر الأونلاين او القيام بأعمال حرفية بسيطة. وكلهم اليوم باتوا غير راغبين بالعودة الى لبنان خاصة من سجّل أولاده في برنامج تعلّم اللغة القبرصية بغية إدخالهم الى المدارس الرسمية المجانية.
لا تنكر شحود ان من لا يملك حساباً في الجزيرة باليورو او الدولار سوف يجد المعيشة غالية اما من يملك الـ”فريش” دولار او حساباً مصرفياً فيها فيجد المعيشة أوفر من لبنان وأكثر راحة ورفاهية، فهي كربة عائلة من خمسة أشخاص يمكنها بـ100 يورو ان تملأ برادها لمدة أسبوعين، وتؤكد ان عائلة من اربعة اشخاص قادرة على العيش بمصروف يتراوح بين 300 و600 يورو. وحدها الإيجارات تعتبر غالية ولا سيما في وسط المدن أما خارجها فيمكن للبناني ان يجد ما يناسبه ويتيح له العيش في الجزيرة والاستمتاع ببحرها وشواطئها المجانية و بكهربائها ومياهها وامنها على راحته…
من جهته يؤكد الحاج موسى ان اللبنانيين استطاعوا في قبرص النجاح في عدة مجالات أبرزها المجال العقاري حيث تمكنت شركات التطوير العقاري من افتتاح فروع لها في الجزيرة والقيام بمشاريع عقارية ادخلت اللمسة اللبنانية المميزة الى مدن عديدة في الجزيرة كانت سابقاً تتميز بأبنية عادية لا تحمل لمسة الرهافة والجمال. كذلك برع اللبنانيون في المجال الأكاديمي خصوصاً بعدما فتحت الجامعة الأميركية فرعاً لها في بافوس باختصاصات متعددة وبعد ان استلم رئاسة جامعة AU OF Cyprus في لارنكا مدير لبناني يعاونه فريق عمل لبناني ايضاً. وساهم وجود الرهبنة الأنطونية والرهبنة اللبنانية بأديرتها في تفعيل الحضور الأكاديمي والثقافي. أما سياحياً فقد دخل اللبنانيون عالم المطاعم وإيجار السيارات والشقق المفروشة وإن لم يستطيعوا مجاراة القطاع السياحي القبرصي العريق الذي يملك تاريخاً طويلاً في هذا المضمار يؤهله لاحتلال مراكز الصدارة في ما يتعلق بالمطاعم والفنادق….
بين مصارف قبرص ولبنان
وفي خضم تخبط لبنان في أزمته المصرفية الخانقة استطاع الحاج موسى من خلال خبرته المصرفية في لبنان ومعرفته بالسوق المالي والمصرفي القبرصي ان يقدم خدمة جديدة للبنانيين فتحت لهم أبواب المصارف القبرصية الذين هم في أمس الحاجة إليها. فقد سهل للبنانيين المقيمين في لبنان من أفراد وشركات عملية فتح حسابات لهم في المصارف القبرصية من دون الانتقال المكلف الى قبرص ليتمكنوا من تسيير أعمالهم ولا سيما بعدما فرضت المصارف اللبنانية القيود على أموال اللبنانيين وعلى التحويلات وكل المعاملات المالية. وقد اتاحت هذه الخدمة للبنانيين امكانية وضع أموالهم التي يحتفظون بها في البيوت في المصارف هناك واتاحت للشركات إمكانية إدخال وإخراج الأموال لتسهيل حركتها التجارية لأن لا شركة يمكنها ان تعمل بلا مرجعية مصرفية تشكل هويتها المالية. وهكذا استطاعت المصارف القبرصية الحلول محل النظام المصرفي اللبناني في كثير من الأوجه وشكلت مصدر أمان لأصحاب الأموال الذين يعملون خارج لبنان ويجهلون اين يضعون أموالهم وللبنانيين الذين يريدون التخلص من عبء حفظ أموالهم في البيوت وللشركات التي تسعى للحصول على تعامل مصرفي سليم بدل ان تضطر للتعامل بالكاش دولار كما هي عليه الحال اليوم في لبنان. ويؤكد الحاج موسى أن المصارف القبرصية سهلت من خلال هذه الخدمة عملية فتح الحسابات للبنانيين وإعطاء قروض للراغبين في شراء شقق او في الدراسة في قبرص، وذلك لأنها تتفهم مخاوف اللبنانيين من جهة وتستفيد من فتح الحسابات من جهة أخرى. وبهذا اصبح للبناني امتداد مالي ومصرفي في قبرص وبعد ان كان “سيدها” صار ” يطبل في عرسها” ويبحث عمن يسد له الفراغ المصرفي الخانق في وطنه.
تطوير عقاري
رغم عدم سهولة انتقال الشركات الصغرى الى قبرص نظراً لغلاء الإيجارات فيها وكلفة المعيشة باليورو إلا أن بعض الشركات الكبرى استطاعت أن تبني لها امبراطورية هناك وقد تميزت إحدى الشركات المالية الكبرى وكذلك إحدى شركات التطويرالعقاري في الجزيرة إضافة الى شركات استشارات هندسية ومالية وبعض الشركات التجارية. من هنا كان لا بد من أن نسأل نقيب الوسطاء والاستشاريين العقاريين عن واقع حال السوق العقاري في قبرص فشرح لـ”نداء الوطن” أن الحضور اللبناني كان الأبرز في القطاع العقاري أولاً لأن المطورين العقاريين استسهلوا العمل في قبرص التي لا تبعد اكثر من عشرين دقيقة عن لبنان ولأن الزبائن اللبنانيين يرغبون بالحصول على منزل في بلد قريب من لبنان. في بداية الأزمة استفاد الكثير من اللبنانيين من شراء الشقق في قبرص بواسطة شيك مصرفي ( ورغم غياب الأرقام إلا أن البعض يقدر عدد الشقق المباعة ب500 شقة) وذلك لتهريب أموالهم من المصارف اللبنانية اما اليوم فلم يعد الأمر معقولاً مع تغير قيمة الشيكات المصرفية وارتفاع الأسعار. لا شك أنه لا يزال ثمة من يشتري شققاً إنما العدد محدود ومعظمهم ممن لديه قدرة شرائية بالدولار الكاش.
بالنسبة للمطورين العقاريين فإن شركات التطوير العقاري العاملة في قبرص لا تتعدى الخمس ومنها واحدة كبيرة ومشاريعها مهمة تستهدف بمعظمها الزبائن الأوروبيين والصينيين وزبائن اوروبا الشرقية الى جانب اللبنانيين وقد ساهمت إحدى هذه الشركات بتطوير مدينة لارنكا ونقلها من خلال نوعية المشاريع العمرانية فيها من مستوى الى آخر أما بقية العاملين في القطاع العقاري فهم مستثمرون يقومون بذلك على صعيد فردي وبرأسمال محدود. ويرى موسى ان الصيت أكبر من الحقيقة وذلك لأن أموال شركات التطوير العقارية محتجزة في المصارف اللبنانية ما يصعب عليها التوسع في مشاريعها وهذه الحركة العقارية لم تعد بفائدة كبيرة على لبنان كما يشاع لكن ما يمكن التأكيد عليه ان قبرص استفادت من الأزمة اللبنانية كما في كل مرة بعد أن عرفت على خلاف لبنان كيف تتخطى أزمتها بالعمل والشفافية.