ما علاقة بلدة القاع اللبنانية بأورلاندو الأميركية، بالضاحية الجنوبية لبيروت، بـ«شارلي أيبدو» الفرنسية، بمطار أتاتورك في اسطنبول، بمطار بروكسيل عاصمة الاتحاد الأوروبي، ببغداد وسامراء و… في العراق، بمذبحة مسرح «باتاكلان» في باريس، ببلدات ومدن سورية استشهدت مراراً، بتدمر تحديداً، ببوابات اللجوء والحدود في الأردن، بشوارع القاهرة وضفاف سيناء، بمدينة زليطن في ليبيا، بمايادوغري في نيجيريا «البوكوحرام»، بمسجد المحاسن في السعودية، بمتحف «باردو» في تونس، بعاصمة أندونيسيا جاكرتا وحيّ السفراء فيها، باختطاف مواطن أوسترالي وذبحه؟…
ما علاقة بلدة القاع بهذه القارات الخمس؟
الرابط بين هذه الأصقاع النائية، تنظيم «الدولة الإسلامية» العالمي «داعش» «أمبريالية دينية متعولمة». والاستخفاف بها مثير للشفقة، ودليل على غباء سياسي. ثبت بالعمليات المتتالية، أن دولة «داعش» مترامية الأطراف، وأنها معسكِرة في أصقاع الدنيا، وأنها قادرة على خوض حروب جبهات وحروب اقتحام وحروب غزو وحروب دفاع داخل «أرض الخلافة في العراق والشام» وفي القارات الخمس، دفعة واحدة… لا مثيل لها في استعمال العنف، بعبقرية القتل وفنونه المختلفة والمبتكرة والتي تنافس جهنم بما لا يقاس. الذي ضَرَب القاع له خصوصيته لبنانياً، ولكن دولة «داعش» ترى إليه من زاوية معركتها الكونية. دولة لا تحتاج إلى عقد حلف مع أحد. تزعم أنها تحالفت مع «الله» فهو مرجعها وقائدها وإليه المآل.
الاستخفاف بـ «داعش» خطير جداً. تأجيل المواجهة الدولية تخلٍّ عن موجبات الإنقاذ. «داعش» وحده ضد الجميع، ضد كل مَن ليس منه وفيه. العالم في مرماه، أينما يصوِّب يصيب. كل معركة يخسرها انتصار ربّاني. لا حساب للخسائر عنده. الوافدون إليه من أنحاء الدنيا، يزوّدونه بمدد بشري لا ينضب، و «إيمان بربري» لا حدود لهمجيته. الانتحار عنده انتصار. قتلاه الثمانية في القاع، «قادة سماويون»، ومن بعدهم كثيرون.
والخوف من «داعش» جريمة أكبر. إنه السلاح الذي يخلفه «داعش» بعد كل مذبحة. التخويف عقيدة ميدانية تشل الأعداء. ولقد حدث ذلك مراراً. هناك مضادات للخوف، ولكنها من فعل الميادين والمواجهات: تدمر نموذجاً والفلوجة كذلك.
لن تكون الأخيرة. وهي ليست الأولى. اللبنانيون لا يقيمون وزناً لدولتهم. الدولة في غيبوبة سياسية. الأمن يقوم بكشف ما تيسَّر، «حزب الله» أغلق باباً، فيما الأبواب الأخرى لا يملك مفاتيحها. ممنوع عنها. الحساسية الطائفية حاسمة. لن تكون الأخيرة. كما حصل في كل مكان وفي عواصم عالمية. التبرير المبسَّط، أن «داعش» يوقظ خلاياه النائمة ويصدر إرهابه المنظم، عندما يُصاب بنكسة في معركة. تبرير ساقط. حساب الخسائر عند «داعش» انتصارات.
قوة «داعش» أنه العدو الأخير، وليس العدو الأول، عند كثير من الدول والحكومات والمنظمات والمحاور. قوته متأتية من تقدم أعداء آخرين عليه. ويكاد يكون ذلك أفضل مظلَّة لحماية «داعش» من الهزيمة.
تركيا لا تعتبر «داعش» العدو الأول. هي في الواقع ملتبسة في تعاملها معه. دعمته أو سهَّلت مرور «الداعشيين» من أنحاء العالم إلى سوريا. اعتُبرت الممر الآمن للداعشيين. وها هي اليوم تدفع الثمن. ثم أن «حزب العمال الكردستاني» يتقدّم على «داعش». هذا يعني، أن قتال الأكراد أولاً و «داعش» ثانياً أو ثالثاً، لأنها تعمل على إسقاط النظام السوري من خلال دعم معارضات إسلامية مسلحة. النظام السوري ومَن معه، لا يتعامل مع «داعش» على أنه عدو أول. الميدان يفرض على النظام أن يقاتل كل مَن يحمل السلاح ضده، وخصوصاً المعارضة غير الداعشية. السعودية كادت أن تولول بعد تحرير الفلوجة. صحيح أن «داعش» يُعاديها كغيرها من الأنظمة التي يكفّرها، ولكنه يضع إيران ومَن معها والنظام السوري ومَن معه في أولوية أهدافه. واللبنانيون، يخشون «داعش» ويعرفون أنه يتربص بلبنان، وأنه موجود على تخومه في البقاع الشمالي، وأن عينه على البحر المتوسط من خلال مناطق شمالية رخوة، وأنه يستهدف بيئة المقاومة أساساً من دون أن يوفر غيرها، ومنها القاع، ولكنهم مختلفون على دور «حزب الله» في سوريا، الذي يساهم، بين مجمل مساهماته العسكرية المختلفة، في قتال «داعش» و «النصرة». البيئات اللبنانية مختلفة. أحياناً، يحل «حزب الله» في المرتبة الأولى من العداوة، حتى قبل «داعش» ناهيك عن تأخر «النصرة» لدى كثيرين، إذ يخففون من تكفيريتها، لانتماء عديدها إلى سوريا ككيان الحرب على «داعش» متعثرة. كل انتصار عليه تصاحبه عملية تشكيك في نتائجها، وإطلاق اتهامات ظالمة. لم يتّحد بعد مكوّنا الإقليم، السني والشيعي، في المعركة على «داعش». لم تتوقف الحرب بين محوري إيران والسعودية. «داعش» يعيش على الفتنة، فكيف إذا كانت الفتنة الكبرى مندلعة من اليمن إلى البحرين والعراق وسوريا. يصبح «داعش» عرضياً لا أساسياً في هذه المعركة.
لبنان لم يشفَ بعد من انقساماته وقد يستعصي الشفاء. آخر «إبداعاته» الخرافية، اللجوء إلى الـ 1701 واقتراح نشر قوات دولية بين لبنان وسوريا. جنون يلامس الهلوسة. العالم مشغول بـ «داعش» عنده، وليس موظفاً عند اللبنانيين، وليس مستعدّاً ليكون سداً يتلقى جنوده الضربات عن اللبنانيين.
الخطر، أن المنازلة مع «داعش» تفترض تغييراً في الثقافة، لتبديل مناخ البيئات المتسامحة مع التطرف والتكفير والتعصب. فـ «داعش» ليس بضاعة أجنبية ولا هو صناعة أجنبية. في مقالة نشرت في صحيفة «بوابة الشرق» قطر، لوزير الإعلام الكويتي الأسبق سعد العجمي نص بليغ بعنوان «كلنا داعش». يقول: «نحن جميعاً داعش، نحن الذين خلقناه وصنعناه وربيناه وعلّمناه وجنّدناه وشحنّاه وعبّأناه ثم وقفنا حيارى أمام أهواله التي صنعناها بأيدينا.. و «داعش» في مجاميعه «تعلّم في مدارسنا وصلَّى في مساجدنا واستمع لإعلامنا وأنصت لمنابرنا ونهل من كتبنا وأطاع أمراءه بيننا واتبع فتاوى من لدنّا». فـ «داعش» لم يأتِ من كوكب آخر.
الأخطر، أن «داعش»، بسبب هذا التراث، يظل نموذجاً إسلامياً يُحتذى أو محتضناً، من قبل بيئات مذهبية متطرفة.
إذا كان ذلك كذلك، فأين المفر؟
بالأمس القاع… وقد لا تكون الأخيرة. وقت القضاء على «داعش» سيتأخر كثيراً.