إذا ما استبسلت أدبيات العروبيين في لعن حدود سايكس – بيكو بصفتها حواجز مصطنعة في قلب «الأمة الواحدة»، فإن ما هو مصطنعٌ ولّد حقيقة صارت طبيعية في تاريخ وثقافة وإنتروبولوجيا الشعوب والبلدان والأنظمة الحاكمة التي ترعرعت في ظل تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك أن سايكس بيكو، كمنهج وخرائط، يدافعُ عن نفسه هذه الأيام ضد أي مجازفة للعبث في أصوله أو مراجعة ثوابته. وفي ذلك أن أهل المنطقة عاجزون، وحتى إشعار آخر، عن إنتاج بدائل تضمن ذلك التعايش النسبي الذي ران على المنطقة بين مكونات ولغات وشعوب وطوائف وطرق عيش وتفكير.
وإذا ما كانت هندسة الخرائط وتوزيعُ مواطن النفوذ جرت بين الكيانين القويين في العالم بعد هزيمة الدولة العثمانية وسلطنتها، فإن للقوى الإقليمية الحالية القول الفصل والسابق على إرادات باريس ولندن وواشنطن وبكين وموسكو.
تجري إدارة المخاض الإقليمي الحالي داخل المنطقة نفسها، فيما تواكب واشنطن وحلفاؤها يوميات الصراع على نحو سالب لا يبدو أنه يقدّم أو يؤخر في تحديد مسارات المنطقة ومصيرها.
يمثّل الميدانان العراقي والسوري قمّة الورش الناشطة لفرض الأمر الواقع الجديد للمنطقة. بات واضحاً أن الحروبَ تدورُ في قلب حدائق النفوذ الإيرانية، وأن طهران متمسّكة باختراقاتها المنجزة، لا تلين في التخلي عما أصبح ليس فقط جزءاً أساسياً من أمن إيران الإستراتيجي، بل من صلب أصول بقاء نظامها السياسي برمته. وفي ذلك الصراع يختلطُ الجيو استراتيجي بالعقائدي، ويتزاحمُ التقاطع بين طهران والرياض وأنقرة والقاهرة ولا تغيب تل أبيب. وفي ذلك الصراع يحدّد اللاعبون المحليون أصول اللعب وقواعده، فيما يبدو أن الخارجَ ينتظر انتهاء المباريات لمباركة النتائج والتأقلم معها.
ضمن ذلك المشهد لا يبدو داعش نشازاً خارج العزف، بل يلعبُ من ضمن الورش القائمة، ويبدو أنه ضرورة من ضرورات الجراحات الراهنة. وبغض النظر عن التفصيل اللوجيستي لتعملق تنظيم أبو بكر البغدادي، فإن الظاهرةَ الداعشية تروّجُ وفق شروط الاختلال في علاقة إيران ببقية دول المنطقة، كما في علاقة السنّة بالشيعة في كل المنطقة العربية وامتداداتها الشرقية في باكستان وأفغانستان وما بعدهما.
في كلام الساسة الدوليين كما الإقليميين عن أن الصراع ضد «داعش» قد يستمرُ عقوداً قناعة جوانية أن ديمومة البعبع السنيّ متّصلة بديمومة ذلك الشيعي، وبأن «داعش» السنّة لا يختلف في وظيفته عن «داعش» الشيعة، وبأن المظلومية السنّية المسؤولة عن ولادة «داعش»، ترث مظلومية شيعية ولّدت «داعش» الشيعة في أشكاله وأجسامه التي عرفناها وما زلنا نعايشها في العراق وسورية ولبنان وأصقاع أخرى (اليمن مثلاً).
ثم إن «داعش» ليس ظاهرة عرضية مستوردة، بل هو في عقيدته وشخوصه نتاج ثقافة تغرف فيضها من قدم الزمان، كما أنها تتغذى من صراعات المنطقة الراهنة ومن الحاجة إليها كواحدة من تعبيرات اللاتوازن الذي بات جلياً منذ احتلال العراق عام 2003.
وفيما اندفعت العواصم العربية لحسم أمر عدائها لتنظيم البغدادي اتساقاً مع موقفها القديم – الجديد في مكافحة الإرهاب، بدا أن العالم مُستنفرٌ لمكافحة الإرهاب بنسخته السنّية، متعايشٌ مع الجماعات الشيعية المسلحة التي تحرّكها طهران، ما أثار ريبة رسمية وشعبية من مآلات الجهد الدولي في انتقائية أهدافه ولبس مآربه.
في تمديد المفاوضات الدولية الإيرانية حول الملف النووي ما يُفهمُ منه مراعاة لأجندات طهران، وتفهمٌ لصعوبات داخلية في إيران تؤخر إبرام اتفاق نهائي مع العالم. يخيّل للمراقب أن المجتمعَ الدولي يتركُ لإيران حرية كاملة للتصرف في المنطقة، لعل في ذلك ما يعززُ مواقعَ طهران الإقليمية، ويجعلها أكثر مرونة في التعاطي مع المقاربات الدولية في شأن برنامجها النووي. ويخيّل للمراقب أن عجزَ العالم عن استيعاب ظاهرة «داعش»، كما عجزه عن توفير خطط رادعة ناجعة، يجعله ضعيفاً أمام مغريات إيران في هذا الصدد، على رغم مما تخصّبه هذه المغريات من احتقان مذهبي ينفخُ رياحاً في أشرعة تنظيم البغدادي.
يتحفظُ الأتراك عن المشاركة في الجهد العسكري ضد «داعش» بالإيقاعات التي تريدها واشنطن. لا شيء في المنطق البديهي للعلاقات الخارجية والإستراتيجية يحثُ أنقرة على القضاء على من يعتبرُ عنصراً خصماً للنفوذ الإيراني، ويذهب ضمنياً مذهب أردوغان وصحبه في ما هو معلن من مواقف إزاء سورية والعراق. في المقابل تتحركُ طهران و»داعشيها» الشيعة باتجاهات تتسقُ مع مزاج الحلف الدولي الواسع لمكافحة «داعش» البغدادي. يفترضُ إعلان البنتاغون عن مشاركة طائرات إيرانية في قصف مواقع داعشية داخل العراق، قبول الشراكة بين واشنطن وطهران في تدبير أمور العراق من جديد على النحو الذي كان معمولاً به في موسم إسقاط نظام صدام حسين.
يؤكدُ البيان الختامي لقمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة في الدوحة ثبات الخلاف والتناقض مع السياسات الإيرانية في المنطقة. بهذا المعنى لا منطق في تعايش إيران وعديد من دول المنطقة في معسكر واحد لمكافحة «داعش»، خصوصاً أن «داعش» هي نتاج مباشر لسلوكات إيران الإقليمية. ثم إن التناقضَ الخليجي الإيراني في مقاربة شأنَيّ العراق (على رغم تقدم علاقات الرياض وبغداد) وسورية (على رغم تكرار الرياض التمسك بالحل والتسوية) يجعلان من «داعش» مسألة قد يجوز فيها إعمال وجهات النظر، بغضّ النظر عن ظلامية خطب التنظيم ودموية دعاياته.
على ذلك تبدو الحرب ضد «داعش» قضية حيوية تهدّد نفوذ إيران، وأن كل جهد إقليمي ودولي لإضعاف تنظيم البغدادي يوفّر دعماً لطهران وصوناً لنظامها، فيما لا يرتاح أهلُ المنطقة أتراكاً وعرباً إلى حقيقة أن تصب مشاركتهم داخل الحلف الدولي في تدعيم نظام يخاصمونه وينافسونه النفوذ.
في الدفاع عن سايكس – بيكو أو في ورش تعديله سيبقى تنظيم «داعش» أداة في صلب الصراع لا مكان لاندثاره إلا في تسوية شاملة ترضي كل الأطراف. وربما في استحالة ذلك وفق الظروف الراهنة ما يفسّر من قدّر زمن الحرب بعشر سنوات أو من توقّعها ممتدة لعقود ثلاثة مقبلة.