بينما ينتظر العالم مصير ترامب المجنون في سباق الرئاسة، بدا ان هناك من يدعم حملته الانتخابية بأشكال مبتكرة في باريس.
هناك صلة إذن بين ليلة الرعب في باريس، وبين قمة أنطاليا (لمجموعة العشرين) من الرابط ذاته بين ترامب وداعش.
العالم تقريباً يقف أمام حائط، لا يمكنه تقديم حلول جذرية للأزمات المتواترة بإيقاع وحشي، وقد تجاوز الأمر البحث عن «مسؤولين» عن هذه الحالة، فهم في الخيال العام جناة، وفي الوقت نفسه يتقدمون صفوف الضحايا.
ليس العالم مجرماً، ولا مجنوناً، لكن صيغة التوافق «سنعيش معاً..» قامت على السيطرة على العالم بالتحكم في توزيع القوة المسلحة، من خلال تنظيم (أمم متحدة) مهمتها ضبط التوازن وضمان السيطرة.
الأمم المتحدة ابنة توافق الدول من داخل «نظام عالمي» على بقاء النظام كما يريد الأقوياء (والمنتصرون منهم طبعاً في المقدمة).
ترامب ليس مهرجاً تلفزيونياً يلعب بالأموال، لكنه نتيجة انفلات هذا النظام، او ابن ولد في حديقته الخلفية، وكبر وترعرع حتى أصبح مرشحاً للخروج من «اللا وعي» الى «الوعي»، ليحكم العالم.. أو يفجره.
داعش منتج آخر للاوعي ويفجر العالم باعتباره ابن منطقة تعيش كمتحف اممي حي لكل الأشكال المجتمعية والسياسية المنقرضة، الدول القومية فيها مجرد نسخ هبطت من أعلى، على أشكال بدائية من التنظيم البشري، فصنعت مسوخاً متنوعة تنوعاً مدهشاً.
ربما يجلس ترامب في القمة المقبلة بديلاً عن اوباما ساحر أميركا الذي أصبح عجوزاً (بالمعني السياسي)، وتكون داعش قد أدارت من مكامنها الحرب تلو الحرب، في إعلان متكرر عن نهاية مرحلة «الدولة القومية»، حيث ينتصب في الطرف المقابل ترامب بهلواناً للدفاع عن «نقاء أميركا».
ــــ 2 ــــ
ترامب قادم إذن… (توقع الناس بعد هجوم باريس)
مجنون النقاء الأميركي، اللاعب بالدولارات، سيطرد المهاجرين ويشعل العالم.
داعش تشعله… بل إنها فرضت نفسها على العالم، وأجلت خلافات «الاتحاد الأوروبي» واقتنصت من أردوغان لمسة حنونة لأوباما… قبل ان يطلب دقيقة حداد، وصمت الجميع على اختلاف مواقعهم عن بناء داعش وتأسيسها ككيان آكل للدولة (القومية).
داعش تجاوز لحظة البناء… ويؤكد كل يوم انه كما وصف من قبل «تنظيم ما بعد حداثي»، يواجه انظمة ديناصورية تعجز معدتها عن ابتلاع كل شيء، يتمدد «داعش» من المشرق الى المغرب بكل ما أوتي من قدرة على التهام الدول، وبكل ما يمتلكه من خفة تنظيم «ما بعد حداثي» يعيد تركيب نفسه عبر الصورة والشعار، لا يلتفت كثيراً الى الفتوى والفقة، مكتفياً بإيقاظ كل المشتاقين الى أدرينالين جماعي يفجرة عنف «أندية القتال»، أولئك الرومانتيكيين الذين يعيشون في شقوق مجتمعات تعيش على التوافق والاندماج والتواطؤ مع «العنف الكبير» الذي تمارسه أنظمة السيطرة والتسلط الشامل الكامل وتغطيه شعارات فاتنة.
إن عنف المافياوات السلطوية ليس سبباً مباشراً وأتوماتيكياً لعنف الدواعش، كما تقول التفسيرات الأكاديمية الكسولة او التحليلات الساذجة، لكنه ينتج فائضاً ضخماً من العنف، تعيد الداعشية تركيبه في سياقات منافسة: /لا رد فعل / ولا حادث عارض تحتاج الى مؤسسات الترويض الكلاسيكية من اعلام ومشايخ /لكنها تحتاج الى إنهاء عنف السيطرة والتسلط، وأنظمة تحتكر السلطة والثروة بكل ما أوتيت من سلاح.
وفي بيان «غزوة» باريس أكدت داعش على أنها لم تخرج من كهوف القضايا الأبدية (تحرير فلسطين) او الدفاع عن المقدسات (الأقصى وخلافة).. لكنها تتحرك دفاعاً عن الذات وانتقاماً لها، وجنونها يرتبط بنوازع أخلاقية بدائية تجعلها ترى باريس أرض العهر، وشوارعها نتنة، والضحايا كانوا في حفلة رذيلة (…كما ورد في بيانهم).. وكما أنه حتى الآن الجناة يحملون الجنسية الفرنسية، أي أنهم لا يرتبطون بدولهم الأصلية، فإن الضحايا ليسوا فرنسيين فقط، بل إنهم أفراد عاديون في بحث عن متعة في ملعب ومسرح.
ــــ 3 ــــ
ليست مجرد سوريالية تجمع الجنون بالرعب، المأساة بالملهاة، الإرهاب بالانهيار الاقتصادي الكبير.
نحن في آخر فصل كامل من تاريخ العالم، تختلف النهاية عن موديل «حرب عالمية ثالثة» التي تخيَّلها الناس (ووصف بها بابا الفاتيكان هجوم باريس) نسخة ثالثة من حرب الجيوش التقليدية… كما تفوق «الأبوكليبس» الذي تخيلته السينما والروايات بعد حرب فيتنام.
الارهاب يحارب الارهاب. والضحايا بعد قليل يتحولون الى قتلة. وصناع مسارح الدم هنا، يبكون هناك، والفرد يُقتل على الهوية ويُتهم على الهوية، ويصعد سلم البطولة على الهوية.
البشرية تضيق برغم اتساعها، واتصالها عبر شبكات تواصل تتلون بألوان الاعلام، ويتماهى فيها الشخص مع مصائب اخرى خارج العقل الجمعي الذي يحكم هويته.
وهو وضعٌ خارج السيطرة، وأكبر من قدرات «الشركات متعددة الجنسية» التي تولت موقع ألوهية العالم الخفية. استطاعت المرور بالأزمات الاقتصادية، وشعور قطاعات كبيرة بالغضب من انعدام العدالة، والرغبة في التغيير (احتلوا وول ستريت وشبيهاتها)، او من امكانات الرأسمالية المتقدمة في احتواء ململة المتأخرة منها… (باعتبار ثورات وانتفاضات العالم العربي جزءاً من هذا التمرد على الوضع العالمي ممثلاً في الوكلاء المحليين من زعماء المافياوات الحاكمة).
بمعنى ما… نحن نعيش في عالم بائد.