IMLebanon

«داعش» جيش من في لبنان؟!

اضطر اللبنانيون لدفع أكثر من مئتي ألف ضحية منهم، بين قتيل وجريح ومخفي ومفقود، ولمعاناة احتلالين على الأقل، لكي يعتبروا أو يتعلموا من سقطات بعض زعمائهم. منها تلك السقطة التي وردت في بيان قمة مرجعية في 16 كانون الثاني سنة 1976، من أن «المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين في لبنان».

مع أن قراءة التاريخ بعد مرور التاريخ عليه، ومع استدامته كتاريخ حاضر أبداً، تظهر أن مسميات تلك العبارة، لم تكن في محل دلالاتها الحقيقية. فلا الذين أطلقوها كانوا «المسلمين». ولا الذين سُموا جيشاً لهم كانوا «الفلسطينيين». ولا الذين أريد لهم أن يكونوا ضدهم كانوا «المسيحيين». بعد نحو أربعين عاماً على تلك السقطة، نكتشف أن الأطراف الثلاثة لم يكونوا غير ثلاث مجموعات سلطوية أوليغارشية لا غير. مجموعة احتكرت اسم المسلمين، ومجموعة هيمنت على قضية الفلسطينيين، ومجموعة اختزلت تمثيل المسيحيين. والثلاثة لهدف السلطة والمصالح والنفوذ والقوة وحسب. لا بل أكثر من ذلك، وبعد مرور ذاك التاريخ كله، نكتشف أن المسلمين كانوا يومها على حق في طلب الشراكة والعدالة والمساواة. وأن الفلسطينيين كانوا ولا يزالون أصحاب قضية مشروعة ووطن مغتصب وحق مسلوب. وأن المسيحيين كانوا فعلاً في موقع ضحية الخوف المبرر، وضحية رد فعل التسلط غير المبرر…

لكن رغم تلك المشاهدات، ورغم كل الحق والخطأ في تلك المعادلة، كانت سقطة تلك العبارة كافية لتحرق أطرافها الثلاثة. بمجرد أن انطباعاً تكون لدى لبناني واحد، بأن هناك لبنانياً آخر يحاول الاستقواء عليه، وبسلاح غير لبناني، وبقوة من خارج لبنان، كان ذلك كافياً ليسقط الثلاثة معاً. سقط الفلسطينيون في حرب لبنان. حتى أنهم لم ينعتقوا منها إلا بعد تحررهم منه سنة 1984. ما مهد سريعاً لتصحيح بوصلة قضيتهم وتفجير انتفاضتهم الصحيحة في المكان الصحيح بعد ثلاثة أعوام فقط. وسقط المسلمون أيضاً في حرب أهلية لم تلبث أن توالدت حروباً مذهبية. حتى أنهم لم يخرجوا منها بحقوقهم ومطالبهم، إلا حين عادوا فاتحدوا مع المسيحيين خلف مطالب السيادة والحرية والاستقلال. وسقط المسيحيون طبعاً، في حرب عبثية من أجل سلطة وهمية، ما انفكت أن تحولت حروباً تدميرية ذاتية على سلطات زواريبية وزعاماتية. ولم يخلصوا منها، إلا بعدما فقدوا كل سلطة وزاروب وزعامة… لتنبثق المعادلة الذهبية الوحيدة من كل تلك المأساة، بأن أي استقواء لأي لبناني كان، على أي لبناني آخر، بقوة أي خارج كان، نتيجته كارثة حتمية ثلاثية الأضلع.

علماً أن هذه المعادلة البديهية لم تتحول مسلّمة وطنية فوراً. لا بل ظلت تستعاد وتتكرر. بعد الاستقواء بالقوة الفلسطينية، حاول البعض الاستقواء بالقوة السورية. ثم تبادل اللبنانيون أدوار التسلط والتحكم بعضلات الاحتلال السوري وجزماته. حتى سقطوا تباعاً وسقطت سوريا بعدهم. وصولاً حتى إلى جنون محاولة الاستقواء بالاسرائيلي ذات يوم من جهنم… هكذا استمرت مغامرات الاستقواء. واستمرت كوارث الجميع، تحصد تبديلات طفيفة في معادلات سلطة محصورة ببضع عشرات، يرثونها بحكم إخراج القيد العائلي، لا بحكم استحقاق النضال الشخصي، ويورثونها من الآباء إلى الأحفاد. ولتستمر الكوارث نفسها تحصد آلاف اللبنانيين بحيواتهم وخيراتهم وممتلكاتهم ومصير الوطن.

تعود إلى الذهن تلك المآسي والعبر، حين يسمع اللبنانيون كلام بعض السياسيين عن «داعش» و»القاعدة» وعن مسلحي التنظيمين على حدود لبنان وداخله. تستيقظ في الذاكرة جهنم كل الحروب، حين تنصت إلى بعض من في السلطة وهو يحاول حماية المسلحين، وتطمين الإرهابيين، وصولاً حتى التهويل بالنازحين. كل المشهد يعود فوراً من الماضي الحاضر إلى الحاضر المقبل. لم يكن ينقص غير مقولة «تحييد الجيش». والعزف على لازمة «عدم زجه» في الدفاع عن لبنان، ولا عن حدوده، ولا عن أمن شعبه ولا عن سيادة أرضه. انتهاء بالدس الخبيث في مواقع «التصادم الاجتماعي»، حول انقسام الجيش ومذهبية انتماءاته وانشقاق عناصره وفرز الدم الوطني وفق أهواء الجنون والمسوخ.

مع أن التدقيق أكثر بالمقارنة المذكورة، يظهر كم أن خطرها الآن أكبر وأضخم وأعمق وأكثر انتحاراً وجنوناً. فسنة 76، كان الاستقواء من قبل مستزعمين مسلمين، ضد متسلطين مسيحيين. اليوم يتم على خلفية مذهبية أشد خطورة، وليس أقلها الفتنة الكبرى بين كل السنة وكل الشيعة. سنة 76 كان الاستقواء بقضية محقة اسمها فلسطين. فيما اليوم يبدو جنون الاستقواء بإرهاب وحشي ماحق لكل البشر والحضارة والحياة. سنة 76 كان العالم مهتماً، ولو بخلفية التآمر علينا، وكان المحيط مستقراً نسبياً، ولو على قاعدة أنظمة العسكريتاريا القمعية. أما اليوم فتمهَّد طريق الدواعش إلى بيروت، لمجرد التخلص من شريك في الوطن والطائفة، فيما العالم لا يهتم بكل المجازر الواقعة من حولنا، وفيما كل منطقتنا منهمكة في لملمة الرؤوس المقطوعة وتكنيس آخر معالم حضارتها المدمرة… فهل من يعيد قراءة ذلك كله، قبل أن يضمر ــــ أو يكاد يعلن ــــ رهانه على أن تكون «داعش» جيش معركة تسلطه على ما تبقى من لبنان؟