IMLebanon

«داعش» إذ يضع إيران والأسد خارج الإقليم

رأينا ذلك في اجتماع جدّة. عندما تكون هناك مشكلة في الإقليم لا تكون ايران في المشهد. ليس لأنها لا ترغب، بل هي تتلهّف للظهور في الصورة، وإنما لأنها المشكلة أو الجزء الأكبر منها. منذ 2001 لا همّ أمنياً لدول الاقليم سوى الارهاب المستشري، اذ اتهمت به واستثمرت الكثير من المال والجهد لمكافحته. أما ايران فلم يكن لها سوى اهتمام وحيد: كيف تستخدم هذا الوباء لتسميم محيطها، وكيف تستغلّه في خططها. الدولة التي حكمت على نفسها بأنها لن تكون يوماً دولة طبيعية لا يمكن العمل معها ولا الاعتماد عليها حتى لو اكتسبت كل مؤهلات القوة والنفوذ وكل وسائل العنف والتطرّف. وحدها اسرائيل تجاري ايران بكونها في الاقليم وضدّه، أي أنهما خارجه، والنظام السوري يلتحق بهما. أمّا العراق فباشر استعادة بعض من طبيعيته في اطار ديناميكية جديدة يُرجى ألا تخذلها ايرانية «حزب الدعوة»، وحتى لبنان الدولة المصادرة البلا رئيس لم يُستَلَب مكانه في الأسرة الدولية على رغم محاولات «حزب الله» لاجتذابه الى ايرانيته.

نعمت طهران طوال الأعوام الأربعة الأخيرة بسكوتٍ وغض نظر اميركيين وغربيين عن دورها البشع والمشين في سورية، وعن أخطائها المميتة في العراق. تصرّفت موقنة بأنها «دولة عظمى اقليمية»، والدول «العظمى» عادةً ما تحتقر الشعوب، على ما تقول أدبياتها عن «الشيطان الأكبر»، غير أن هذا الشيطان هو مَن صَمَت على ممارساتها وكتَم ما يعرفه طالما أنها تساعد نظام بشار الأسد على تدمير سورية.

لكن اللحظة المناسبة جاءت لتذكير ايران بأنها، كدولة، كحرس ثوري، كأجهزة، ليست تحت الاشتباه فحسب، بل موضع الاتهام في تغذية الغول الارهابي. كل دول الاقليم، ولا سيما الجوار، تعلم ما هو دورها، تمقت تهورها وتجهد لإحباط تدخلاتها وتضبط النفس، الى أن طفح الكيل أخيراً بالرئيس اليمني الذي اتّهمها بـ «محاولة مقايضة صنعاء بدمشق». ذاك أن ايران ما انفكّت تشعل الحرائق تمهيداً لاستثمارها، وهو ما حاولت وستحاول أن تكرره باستغلال «الحرب على داعش». لا شك في أنها مؤهلة لدور، لكنها أساءت اليه بتجاهلها الحقائق الديموغرافية والاجتماعية والدينية لشعوب الاقليم، وذهبت بعيداً في الشحن المذهبي وفي عسكرة الطائفة الشيعية وتوظيفها في مشروع لا يمكن أن يكون مستقبله على الصورة التي تظهره بها حالياً.

لعل كل كلمة تقال اليوم في اطار ضبط عمل الحكومة العراقية الجديدة هي بمثابة نقد مباشر ليس فقط لنوري المالكي بل خصوصاً لإيران وسياساتها. نموذجان على سبيل المثال: الأول أن الحكومة السابقة حاولت في أيامها الأخيرة الإيحاء بأن فك الحصار عن آمرلي تم بجهد الجيش، وقصد المالكي البلدة الشيعية لإعلان بدايات النصر على «داعش»، ليتبيّن أن العملية تمّت بمؤازرة من «البشمركة» الكردية وبمشاركة عسكريين ايرانيين وميليشيات شيعية. وعندما اجتمع الوزير جون كيري للمرة الأولى مع حيدر العبادي، كانت «اعادة هيكلة» الجيش وتأهيله وتدريبه من أولى مطالبه، أي أن ما سمّي «جيش المالكي» أو «جيش ايران» لا يصلح بوضعه الراهن لخوض معركة يفترض أن أبرز أهدافها استعادة السنّة الى الدولة العراقية. أما المثال الآخر فكان قرار العبادي وقف قصف المناطق السنّية، اذ كان سلفه أجاز كل أنواع القصف (المدفعي والصاروخي العشوائي، والجوّي، وحتى إلقاء البراميل المتفجّرة على أهداف مدنية محدّدة)، ومنذ انسحاب الجيش من المحافظات السنّية لم يعد في مواجهة قتالية ذات مغزى ضدّ «داعش»، فأضحى القصف مجرد قتل للقتل. ولما كان دمج العشائر السنّية إحدى ركائز الاستراتيجية التي حدّدها البنتاغون للحرب على الارهاب، فإن العبادي يبدي التزاماً بها، على عكس سلفه.

هذا لا يعني طبعاً أن الصيغة الإجمالية لحكومة العبادي مثالية وواعدة، بالمعنى العراقي «الوطني». صحيح أن هناك تمثيلاً للمكوّنات الثلاثة، لكن هناك جرعةً ثقيلةً جداً من المؤدلجين الذين لا يخيطون خيطاً من دون موافقة طهران. ويكفي أن تتجدّد الصعوبات في اعتماد وزيرين للداخلية والدفاع، على رغم كل ما حصل، للتذكير بعهد سيئ الذكر والتنبيه الى أن المسألة لا تقتصر على انعدام الثقة بين الأطراف، بل تمتدّ الى رغبة في اعطاء لونٍ واحدٍ لنظام لا يمكن إلا أن يكون تعددياً، وكذلك الى رغبة في الاحتكار المذهبي لكل ما هو عسكري وأمني واستخباري. في أي حال، هذه حكومة أمام اختبار يجب أن تخوضه بهاجس معاودة توطيد الوحدة الوطنية، ولا خيار لها غير النجاح لئلا تكون الحكومة الأخيرة في عراق موحّد. ما الذي منع قيام حكومة كهذه مع المالكي؟ للأمر علاقة بشخص الأخير، وله علاقة أيضاً بالإرادة والمشروع الايرانيين. وما الذي منع قيام حكومة مماثلة في سورية تأسيساً على صيغة «جنيف 2»؟ للأمر علاقة بخيارات بشار الأسد ولغته الخشبية، لكن تبيّن أخيراً أن حليفه الايراني هو الذي أصرّ مشجعاً على تقديم مسألة «مكافحة الارهاب» على «الحل السياسي»، اذ اعتبر أن مثل هذا التوجّه يرشحه لمكانة دولية مميّزة على حساب خصومه الاقليميين ولا سيما السعودية. لكن منطق الحرب المزمعة على الارهاب ومسارها يبدوان بعيدين جداً من منح ايران أي ميزة، وإنْ كان الاميركيون يريدون مساهمتها في الاتجاه الذي يتبنّاه «التحالف الدولي».

لم يعد خافياً الآن أن تعنّت أنظمة طهران ودمشق وبغداد هو ما قاد عملياً الى بروز «داعش» وصعوده وبالتالي شيوع هذا الخطر الذي يتهدّد كل الاقليم، ولا يمكن أن يُصدَّ ويُوَاجَه بالعربدة الايرانية وحدها بل بتضامن اقليمي، فالاقليم لم يصبح ايرانياً بعد، ولن يكون ايرانياً. لم يستهجن أحد ألا يتمثّل للنظام السوري في اجتماع جدّة. قيل إن طهران اشترطت حضوره لتحضر، لكن هذه مجرد رواية غير مؤكدة، وإذا صحّت فالمستهجن ألا تتساءل ايران كيف صارت وحليفها منبوذين معاً في جدّة كما في باريس. لعل تغريدةً لوزير الخارجية البحريني تختصر الجواب: «مؤتمر باريس هو لمن يريد إنقاذ الشعبين السوري والعراقي. ولا مكان لمن ساهم في قتلهم و تشريدهم»… من هنا أن ثمن تصعيد «داعش» لا بدّ من أن يقع على من لعبوا ورقته لإنقاذ نظام الأسد وتثبيت نظام المالكي، والوقع يُظهر الآن أن هذه الورقة كانت خاسرة أصلاً: فالمالكي «رُفس» الى أعلى من دون مهمة محددة ولا مستقبل سياسياً له، والنظام السوري في أسوأ حال منذ بداية الثورة عليه، والاميركيون عادوا – كـ «منقذين» – الى العراق، والحرب على «داعش» ستكون لها تداعيات سياسية تتشكّل خلالها وبمساهمة المشاركين فيها.

الأكيد أن ايران لن تبقى خارج «التحالف» أو بعيداً منه، وسيكون لها دور في الحرب بشكل أو بآخر، لكن ستضطر الى التواضع في طموحاتها وللكفّ عن السعي المبكر لاستثمار نتائج هذه الحرب. الأكيد أيضاً أن العراق ونظامه سيتخذان وجهة مخالفة لما رسمته لهما ايران، فقد أتيحت لها فرصة كاملة لإدارة هذا البلد ففضّلت تخريبه والعبث بعناصر استقراره. والأكيد أخيراً أن ايران لن تستطيع (حتى بمؤازرة روسيا) التفرّد في تقرير مصير سورية، فـ «التحالف ضد الارهاب» لا يقوم فقط على استراتيجية حربية بل أيضاً على تفاهمات سياسية بشأن ما بعد الحرب، ومهما جرى التلاعب بهذه التفاهمات أو التنصّل منها، فإن أياً من القوى الدولية لا تتصوّر سورية وشعبها واقعين تحت النفوذ الايراني… هذه استنتاجات وليست تمنيات خيالية، فالسياسة الهائجة التي مارستها ايران لأعوام طويلة، وفي ظنّها أنها ستغيّر أحوال الاقليم وتهيمن على دوله وشعوبه، انتهت الى واقع يفيد بأن أي استراتيجية تبنى على الثأرية والاستقواء للتصالح مع رواسب التاريخ لا يمكن أن تكون مشروعاً للمستقبل.