الأكيد أنّ السيّد نوري المالكي لا يستطيع تخيّل نفسه في موقع غير موقع رئيس الوزراء في العراق. يمكن فهم هذا الشعور الذي عبّر المالكي عنه في الأيّام القليلة التي سبقت تشكيل حكومة حيدر العبادي وبعدها. فكلّ ما صدر عن نائب رئيس الجمهورية الجديد في العراق يعكس مرارة ليس بعدها مرارة وايماناً بأنّ نوري المالكي خُلق ليكون رئيس للوزراء الذي يظلّ، إلى إشعار آخر، الموقع السياسي الأهمّ في العراق.
في النهاية، شكّل العبادي حكومته وتلقى تهاني الرئيس باراك أوباما الذي سارع إلى اعتبار أنّ مثل هذه الحكومة، التي لا تزال ناقصة، يمكن أن تساهم في نجاح الحرب على «داعش». كان الأجدر بالرئيس الأميركي أن يسأل نفسه، قبل توجيه التهاني الحارة وبناء الآمال، كيف يمكن لحكومة عراقية برئاسة العبادي أن تكون مختلفة كلّياً في سلوكها السياسي عن الحكومة التي كانت برئاسة المالكي؟
يمكن أن يكون هذا السؤال خطوة أولى على طريق المباشرة في معالجة موضوع في غاية الأهمّية والخطورة اسمه «داعش». هل شكّل العبادي حكومة مختلفة؟ هل شكّل حكومة يهمّها المواطن العراقي بعيداً عن أي نوع من أنواع المذهبية والطائفية والمناطقية والرغبة في الانتقام والتطهير العرقي والمذهبي بدل السعي إلى البناء والاستفادة من ثروات العراق على نحو عادل؟
مثل هذه الحكومة التي لا تفرّق بين شيعي وسنّي ومسيحي وإيزيدي وبين وكردي وعربي وتركماني هي الوحيدة التي ستكون قادرة على مواجهة «داعش». هذا إذا كان المطلوب مواجهة «داعش» وليس نشر الفوضى في المنطقة بهدف تفتيتها.
يظلّ الموضوع موضوع ذهنية معيّنة في حاجة إلى تغيير وليس موضوع حكومة عراقية أخذ تشكيلها وقتاً طويلاً من أجل إرضاء أطراف معروفين ومراعاة لتوازنات معيّنة. فأسوأ ما في الحكومة أنّها تضمّ عدداً من الشخصيات التي يمكن القول إنّها من طينة نوري المالكي. أي من طينة من يضع الانتماء المذهبي فوق الانتماء الوطني. لا يمكن تجاهل أنّ المالكي سلّم في مرحلة معيّنة كلّ أوراقه إلى إيران بعد اكتشافه أنّها الطرف الوحيد الذي يمكن أن يوصله إلى موقع رئيس الوزراء. لعلّ أسوأ ما في الحكومة أنّها تضمّ وزراء ينتمون إلى مدرسة المالكي.
عاجلاً أم آجلاً، سيكون العبادي أمام امتحان كبير، خصوصاً بعد قوله في مجلس النوّاب إن حكومته «ترفض أي سلاح خارج سلاح الدولة». هل هو قادر على ترجمة هذا الكلام على الأرض، خصوصاً أنّ كلّ المؤشرات تدلّ على زيادة في عدد الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية وأن كلّ الجهود منصبّة على جعل هذه الميليشيات رأس الحربة في التصدي لـ«داعش» وذلك بموافقة إيرانية ـ أميركية.
مرّة أخرى، وبكلام واضح، ليس مهمّاً أن يكون كل الوزراء العراقيين من الشيعة أو السنّة. الأهمّ أن يعمل هؤلاء بذهنية مختلفة. من يختار السيّد ابراهيم الجعفري ليكون وزيراً للخارجية، خلفاً للسيّد هوشيار زيباري، لا يسعى بالضرورة إلى إبعاد العراق عن السياسة الإيرانية من جهة وإعادة مدّ الجسور بين العراق وبين العرب الآخرين من جهة أخرى.
أسوأ ما في الأمر، أي في التغيير الذي حصل في وزارة الخارجية، أن الكردي هوشيار زيباري تصرّف كسياسي وديبلوماسي محترف خلال توليه الوزارة لفترة طويلة. تصرّف كرئيس للديبلوماسية العراقية أوّلاً وليس ككردي ينتمي إلى حزب معيّن. سعى إلى الإبقاء على علاقات معقولة مع العرب الآخرين، خصوصاً أهل الخليج، ومع العالم المتحضّر، خلافاً لتوجّهات المالكي وعدد لا بأس به من أعضاء حكومته.
الخوف كلّ الخوف الآن من أنّ يشطب الجعفري كلّ الإيجابيات التي تحقّقت في عهد هوشيار زيباري الذي سعى، على الرغم من كلّ العقبات التي وُضعت في طريقه، إلى سياسة خارجية مستقلّة قدر الإمكان تضع مصلحة العراق فوق كلّ ما عداها. فعل ذلك فيما كانت حكومة المالكي تسعى إلى أخذ السفينة العراقية في اتجاه آخر، خصوصاً بعد إرسالها ميليشيات إلى سوريا دعماً لنظام طائفي يذبح شعبه يومياً. أقدمت على ذلك بناء على طلب إيراني وذلك بعد أشهر قليلة من شكوى المالكي من أنّ بشّار الأسد يرسل «إرهابيين» إلى العراق!
بعيداً عن الكلام الجميل عن حصر السلاح بالدولة والاستعانة بالكفاءات، هناك سؤال يطرح نفسه. يطرح السؤال نفسه على العراقيين وعلى الأميركيين في الوقت ذاته. هل المطلوب محاربة تنظيم إرهابي مثل «داعش» أم محاربة هذا التنظيم بـ«دواعش» أخرى لا تقلّ خطورة عنه؟
تحت غطاء «الحرب على الإرهاب» قلبت الولايات المتحدة النظام في العراق. قدّمت خدمة كبيرة للشعب العراقي، لكنّها ما لبثت أن شجعت عملية تسليم العراق إلى إيران. لعبت عملية إثارة الغرائز المذهبية، وهي لعبة أخذت كل أبعادها في عهد نوري المالكي، الدور الأهمّ في جعل «داعش» تتمدّد بالسهولة التي تمدّدت بها في العراق.
شئنا أم أبينا، لا يمكن محاربة «داعش» السنّية بـ«دواعش» شيعية. هذا كلّ ما في الأمر. هل حكومة العبادي قادرة على أن تكون حكومة كلّ العراق، أم أنّ كلّ ما جرى كان عملية تجميل لا أكثر بهدف انقاذ السياسة الإيرانية في العراق.
بدأت عملية التجميل هذه بالاستغناء عن المالكي وإعطائه منصباً بروتوكولياً أكثر من أيّ شيء آخر. يبدو العراق في حاجة الى أكثر من عملية تجميل في حال كان مطلوباً بالفعل مواجهة «داعش». هل في استطاعة شخص مثل حيدر العبّادي، يُفترض أنّه يعرف العالم لعب دور إنقاذي في العراق، أمّ أن ذلك يستحيل على شخص ينتمي إلى حزب مذهبي مثل «حزب الدعوة الإسلامية»، وهو النسخة الشيعية عن الإخوان المسلمين السنّة؟
الأمل في أن تكون إدارة باراك أوباما تعرف ما الذي تفعله في العراق وأن لا تكون حربها على «داعش» نسخة متطورة عن حرب إدارة جورج بوش الابن على العراق في السنة . انتهت تلك الحرب بإنقاذ العراقيين من نظام صدّام حسين العائلي ـ البعثي، ولكن بتسليم العراق، على صحن من فضّة، إلى إيران عبر الميليشيات المذهبية. أي من السيئ إلى الأسوأ.
هل تتفهّم إدارة باراك أوباما أنّ «الحلف الواسع» الذي تسعى إلى تشكيله لا يقدّم ولا يؤخّر، مهما كانت النيّات حسنة، وأن «داعش» لا تحارب بـ«دواعش»، خصوصاً في العراق. كما لا يمكن أن تحارب في سوريا ما دام النظام العائلي ـ البعثي الآخر، وهو في نهاية المطاف نظام فئوي يؤمن بحلف الأقلّيات، مستمرّ في حربه على شعبه؟