ليس في الامكان التمييز بين ارهاب وارهاب، لذلك ليس كافيا اعلان الحرب على «داعش» الذي ضرب في بروكسل، بعد باريس، مستهدفا ابرياء بمقدار ما ان الحاجة تدعو الى مقاربة شاملة لهذه الآفة.
مثل هذه الآفة التي اسمها «داعش» تحتاج الى حرب حقيقية تشمل الاماكن الذي يوجد فيها هذا التنظيم والبحث عن الاسباب التي ادّت الى قيامه وتوسّعه، فضلا بالطبع عن الاعتراف بتقصير المسلمين، خصوصا العرب، في التصدي الباكر لهذا المرض الخبيث.
فكما يقول الملك عبدالله الثاني الذي كان في مقدّم الذين تصدوا لهذه الظاهرة: «هذه الحرب هي حربنا اوّلا» قبل ان تكون حرب اي احد آخر. يشير العاهل الاردني، في كلّ مناسبة، الى ان من يرتكب مثل هذه الاعمال الارهابية لا علاقة له بالاسلام لا من قريب او بعيد، مشددا على ان هؤلاء «خوارج».
هذا لا يعني في طبيعة الحال ان الغرب، على رأسه الولايات المتحدة، ليس مسؤولا عن قيام «داعش» وعن وصولها الى المجتمعات الاوروبية. فالولايات المتحدة قامت بكل ما يجب القيام به من اجل توفير حواضن لـ»داعش» وقبل ذلك لـ»القاعدة». ترافق ذلك مع تراخ اوروبي لم يتنبه الى ان التغاضي عن التطرّف والمتطرفين وعن وجود غيتوات في مدن ومناطق اوروبية معيّنة ليس مقبولا لا باسم الديموقراطية ولا باسم المحافظة على الحرّيات وحقوق المواطن.
يُفترض بمن يأتي الى اوروبا التعايش مع قيم المجتمع الاوروبي والتأقلم معها بدل الاكتفاء بما تقدمه له الحكومات الاوروبية من مساعدات وخدمات.
فصل هذا المجتمع، منذ قرون عدّة، بين الدين والدولة وانشأ مجتمعات ودولاً مدنية تؤمن بالقانون وسيادته وليس بالفتاوى التي تصدر في غالب الاحيان عن رجال دين جهلة، تخرّجوا من مدرسة الاخوان المسلمين. لدى رجال الدين هؤلاء علاقة بكل شيء باستثناء الدين.
كان ملفتا ان «داعش» بدأ ينتشر ويقوى مع استمرار التدهور في سوريا ورفض المجتمع الدولي، خصوصا ادارة باراك اوباما، وضع حدّ لعملية ذبح الشعب السوري اكان ذلك بالسلاح الكيميائي او القصف المدفعي او البراميل المتفجرة او الميليشيات المذهبية التي تحرّكها ايران… او، اخيرا، بواسطة سلاح الجو الروسي.
كان ملفتا ايضا انتشار «داعش» في العراق في وقت، عملت ايران كلّ شيء من اجل جعل السنّة العرب يلجأون الى الارهاب في مواجهة ارهاب آخر مارسته ميليشيات مذهبية صار اسمها في العراق وفي مرحلة معيّنة «الحشد الشعبي».
رفض الغرب منذ البداية الاعتراف بانّ في اساس «داعش» النظامان في ايران وسوريا اللذان ارادا استغلال هذا الوحش من اجل القول ان النظام السوري يخوض معركة مع الارهاب وان الميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية والافغانية لا تقاتل الشعب السوري، بل تقاتل «التكفيريين». ما هذه الحجة السخيفة التي لم تنطل سوى على ادارة اميركية كان همّها الاوّل والاخير حصر الارهاب بأهل السنّة؟
اكثر من ذلك، لم يكن هناك من تصد جدي لـ»داعش» بعد اجتياحه مدينة الموصل، ثاني اكبر المدن العراقية، وانكشاف مدى تواطؤ حكومة نوري المالكي المدعومة من ايران مع التطرّف والمتطرّفين ومدى استثمارها في كلّ ما من شأنه زيادة الانقسام الطائفي والمذهبي في العراق وتعميقه بشكل منهجي.
لم يكن من تصدّ من الميليشيات المذهبية المدعومة من ايران لـ»داعش» في ايّ وقت، لا في العراق ولا في سوريا. كان همّ هذه الميليشيات في سوريا تلميع صورة النظام، فيما كان همّها في العراق منصبّا على كيفية طرد السنّة العرب من اراضيهم وتغيير طبيعة بغداد. هذه التصرّفات التي كان وراءها النظامان في سوريا وايران وما يسمّى «محور الممانعة» كانت في اساس تمدّد «داعش» ومبرّر وجود هذا التنظيم. هل من دليل على ذلك اكثر من ان «داعش» لم يقم يوما بعملية تستهدف ايران؟
هناك تقاعس عربي في التصدي لـ»داعش»، لكنّه لا يمكن تجاهل ان هذا التنظيم الارهابي لم ير النور الّا بعدما عمل المجتمع الدولي كلّ ما في وسعه لابادة الشعب السوري وتهجيره وتفتيت سوريا. لم يعمل هذا المجتمع شيئا من اجل منع النظام السوري ومن خلفه ايران من اطلاق «داعش». لم يدرك حتّى معنى خطورة ترك «داعش» يصل الى اوروبا وقبل ذلك الى تونس وليبيا والنتائج المترتبة على ذلك.
من المسؤول عن تحوّل الارض الليبية الى قاعدة ينطلق منها مسلّحون لتهديد كل شمال افريقيا، خصوصا تونس؟ لماذا لم تحصل عملية عسكرية واحدة ضدّ «داعش» في ليبيا حماية للمنطقة كلّها؟
تفتقد الحرب على «داعش» الى مكونات عدة. يتمثل المكون الاوّل في الاقتناع بان «داعش» نتاج للنظام السوري وداعميه على رأسهم ايران. لا مجال للتخلّص من «داعش» ما دام النظام السوري الذي تعتبره ايران «خطاً احمر» قائماً، حتّى لو كان ذلك صورياً.
هل من نيّة في اقتلاع «داعش» والانتهاء منه؟ متى تبيّن ان هناك عودة الى الجذور، يمكن القول ان هناك جدّية في الحرب على «داعش». في غياب هذه العودة، سيظل «داعش» يُستخدم مبرراً لتحقيق اهداف عدّة. من بين هذه الاهداف العمل على تفتيت سوريا وتصوير الاسلام بانّه عدو للمجتمعات الغربية.
هناك بين العرب من يدرك خطورة «داعش» والواقع المتمثل في انّ هناك من يستخدم هذا التنظيم لتحقيق اهداف تصبّ في نهاية المطاف في غير مصلحة الاستقرار في الشرق الاوسط، اي في مصلحة المشروع التوسّعي الايراني.
هذا الواقع لا يعفي اوروبا من مسؤولياتها، خصوصا في ظل ادارة اميركية قرّرت سلفا ان عليها ان تكون في موقع المتفرّج.
ان تتحمّل اوروبا مسؤولياتها يعني بكل بساطة رفض وجود مجتمعات منغلقة على نفسها، لا في باريس ولا في بروكسل ولا في لندن ولا في اي مدينة او قرية اوروبية. هل جاء عرب او مسلمون الى اوروبا للتحريض على الثقافة الاوروبية وعلى القيم التي تؤمن بها هذه المجتمعات الاوروبية؟ هل جاء هؤلاء العرب والمسلمون الى اوروبا بفكرة الغزو؟
العرب والمسلمون مسؤولون عن محاربة «داعش». هذا امر مفروغ منه. مسؤوليتهم تتقدّم على مسؤولية اي طرف آخر.
الاميركيون والاوروبيون مسؤولون ايضا. المهمّ ان تكون هناك رغبة حقيقية تحرّكها ارادة قويّة في مواجهة هذه الظاهرة. مرّة اخرى، هل من يريد الذهاب الى الجذور نعم أو لا؟ هل من يريد الاقتناع بان لا فائدة من حرب على «داعش» في ظل التمييز بين ارهاب وارهاب، بين ارهاب سنّي وارهاب شيعي، وان النجاح في هذه الحرب يبدأ بالاعتراف بأن النظام السوري مكون اساسي من مكونات «داعش» بل عمود من اعمدتها. هذا ينطبق على الوضع قبل الاحداث الاخيرة في بروكسل وبعدها.