IMLebanon

«داعش».. «أولاً وأخيراً وبَيْن بَيْن»

لا يُصدَّق ما نعانيه. ما كان أحد يتوقع أن ينفجر المشرق ويتداعى. غير معقول أن يكون أبو بكر البغدادي «رجل العام». ليس في الحسبان أن يكون «داعش» محور العام 2015. يصعب تصديق هذه الأمور، ولكنها حقيقية، ومن العار الاعتراف بذلك، لكن لا بد من إشهار هذا العار. ليس عند العرب سواه، والعالم، ما عانى مثل معاناته مع «داعش». وحده، «داعش»، ضد العالم كله. عدوه في كل مكان، في كل دولة، في كل حزب، في كل دين، في كل مذهب. وحده يضرب فيصيب، يُضْرَب فينتشر… عجزٌ عسكري وعقمٌ سياسي وعبث «تحالفات»، أنجزت حتى الآن تنافساً بين أعداء، باتوا «أصدقاء» اضطراراً. قصفٌ من فوق وتوسُّع من تحت، باستثناءات قليلة في جوار المناطق التي يقاتل فيها أكراد، والأسباب فضيحة، والنتائج كارثة: إقامة أوطان اثنية بديلاً عن أوطان بمواطنين.

سيترك العام 2015 بصمته لزمن بعيد. ما اجترحه ليس عابراً. من «خوارقه» ما هو طاعن في الحضور والتأثير:

أولاً: معايشة العنف والاعتياد عليه وتوقعه في أي لحظة وأينما كان: هنا، هناك، هنالك، وحيث لا ينتظره أحد. الكوكب حقل رماية له، والإصابات تزرع الهلع. الاستغاثات وإعلان الحروب على مرتكبيه، يشتهيها أهل العنف، كـ «داعش» و «القاعدة». والعنف الشاهر رعبه في كل مكان، هو عنف مُعقدن، عليه تتأسس جماعات وبه يلتحق «مجانين الله». العنف ليس صفة لتنظيم، بل هو التنظيم. ليس مضافاً إلى بل يضاف إليه، لأنه الأساس، بل هو المؤسسة. ولا مرة شهد العالم عنفاً بهذا التأصيل، حيث ما يتبقى من التنظيم فروع له… العام 2015، يُدَرِّسُ فصلاً غير مكتوب من قبل: «في البدء كان العنف». هذا هو «داعش». ولهذا العنف مستويات عديدة تتبارز في ما بينها، لتصل حدود الابتكار لوسائل شنيعة ومريعة، ويروَّج له بأحدث الوسائل وأرقى التقنيات. همجية وبربرية ووحشية، في متناول كل من أراد ومن لم يرد كذلك… هذا العنف، يوظف الله في خدمته. الله، هو «رب الجنود» في بعض النصوص التوراتية. مع «داعش»، هو العنف الذي وُهِب لـ «داعش» ومشتقاته. فمن دون العنف، لا وجود لإله. يُهان الله ويُغْلَب، إن تراخى العنف أو تراجع.

هل هناك أفظع من هذا؟ لا بريء على الإطلاق. كل من يسقط على يدي «داعش»، هو مذنب، خاطئ، كافر، ملعون وبقاؤه يشكل خطراً على الله والمؤمنين بجبروته… العنف هو المقدس، وما عداه تفريط بموجبات الإيمان الحرفي. السلام ضد الله. «التوحُّش» هو الطريق والممر الجهنمي لتأكيد الرسالة: «إقامة حكم خليفة الله على الأرض، كل الأرض»، أرض الإسلام هي الكوكب برمّته.

ثانياً: توقُّع الأسوأ دائماً، كان ذلك في العام 2015. الخلاص مستبعَدٌ. التفكير فيه أضغاث آمال. ماذا ينتظر سوريا؟ ما هو المتوقع للعراق؟ أي غدٍ لليمن؟ ومَن ينقذ ليبيا؟ ثم، وهذا هو الأهم، مَن سينجو من «داعش» وأخوته. لبنان في مرمى التكفير. يُداريه بالتي هي أحسن. «حزب الله» يقاتله في سوريا منعاً لتدفقه إلى لبنان. هل فوق الأردن خيمة زرقاء؟ هل يصبح مشروع فلسطين، مشروعاً ملحقاً بـ «داعش». هي حاضرة فيه ومنتظرة. من ينقذ دول شمال افريقيا؟ ثم، وهذا هو بيت القصيد، هل تنجو المملكة العربية السعودية؟ انتظار الأسوأ، دفع كاتباً روسياً إلى تسجيل مستقبل المنطقة الكالح. يكتب أوجيني ساتانوفسكي تحت عنوان «حرب شاملة بين الشيعة والسنة» ما يلي: «ستضعف سيادة كل الدول باستثناء إيران وتركيا وإسرائيل. سيتم تفتيت وتقسيم العراق، وسوريا، والعربية السعودية، وأفغانستان والأرجح الباكستان أيضاً.. ستشهد المنطقة ولادة «هويات ملتصقة بأرض لأكراد ودروز وعلويين، وسباق تسلّح، بما فيه نووي. استقواء الإسلام الأصولي وتثبيت دعائم السلطة في المناطق التي تقع تحت أمرة قوات عسكرية سنية، مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام… ثم، حرب شاملة بين الشيعة والسنة».

يُضاف إلى هذه الترسيمات المتوقعة «حروب إبادة للأقليات الدينية والعرقية، وصعود نموذج الديموقراطية الإسلامية (إيران وتركيا)، ترافقها إقامة حراسة مشددة على منصّات وآبار النفط، فيما تنهار الصناعة وتنحسر الأراضي الزراعية، ويتدفق عشرات ملايين المهجرين باتجاه الاتحاد الأوروبي».

يصعب تصديق ذلك؟ يلزم عدم اعتبار ذلك ممكناً، ولكن هل من بديل؟ حتى الآن، وبعد أعوام من المعارك، يتوقع أن تسفر العمليات السياسية إلى تقاسم البلاد بين حملة السلاح وحملة العقائد.

مرحلة انتظار الأسوأ، لا أفق لنهايتها. تلك أمثولة لليأس في العام 2015.

ثالثاً: ثلاث دول إقليمية ستظل حاضرة ومستقبلها أمامها. إيران، تركيا و «إسرائيل». العرب باتوا بلا دولة قائدة. مصر في محنتها، تداوي التكفير بالبوليس. السعودية «العظمى» تلملم مغامراتها. حصتها من المنطقة فتات، وهي بحاجة إلى حماية. الجامعة العربية مفلسة من زمان. الفراغ العربي دفع الآخرين إلى تقرير مصير العرب، بلا عروبة. عرب بكيانات بهويات ضئيلة وعاصية، تستمدّ شرعيتها من تاريخ لا يعوَّل عليه في عملية البناء، تاريخ كفيل بتدمير ما هو جدير بالمستقبل والحياة.

رابعاً: وداعاً لـ «الربيع العربي». لا أمل في قدوم آخر له، الأحزاب الجديرة بزراعة الأمل بالتغيير، انتهى زمنها. هي مأزومة بذاتها. منظَّمات الـ NGO ليست البديل عن الأحزاب والتيارات. تونس، دُرَّة «الربيع العربي»، ستبقى وحيدة في أمة يتيمة… لقد أمّن الاستبداد الأرضية الوافرة لمن يشبهه. قاتل «الربيع» العربي وقتله. البديل عنه أبشع من الاستبداد، وهو الذي نعانيه منه اليوم.

خامساً: محنة الدين الإسلامي. لقد بات عقيدة المعارك. نصّه المقدس صار ترسانة من الآيات ومرجعاً لتبرير الصراعات والحروب. والقتلى مسلمون، بطوائفهم وأحزابهم المختلفة. الصراع السني ـ الشيعي شيء من حروب الديانات بأعمار تتخطّى العشرات من الأعوام. لن يتم إنقاذ الدين الإسلامي إلا بعد هزيمته في المعارك التي استُدرج إليها. إذا هُزم على أيدي مرتكبيه، عاد إلى نقائه، رسالة إلى الروح، تاركاً السياسة خارج اهتماماته.

سادساً: صورة الفتى السوري إيلان على شاطئ يوناني، أيقظت الضمير العالمي لأيام. غرق قبله كثيرون. غرق بعده أكثر. ومقبرة المتوسط تتسع لأرقام. العرب خزان تهجير. أوطان طاردة لشعوبها. أنظمة استبدادية استباحت الإنسان. أحزاب تكفيرية لا يصمد أمامها أحد. الأبشع أننا صرنا نرى إلى اللجوء أنه مسألة رقمية، وأن روحنا صدئت وإحساسنا تَمْسَح. لم نكن مشوّهين إلى هذه الدرجة.

ماذا بعد؟

أمور كثيرة تشكّل بصمة للعام 2015. لعل الأمل أن يحمل العام المقبل عكس ما جاء في هذه المقالة البائسة. حبَّذا!