مر أمس عام على إعلان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الخلافة ومبايعته «أبو بكر البغدادي» خليفة على مساحة غير صغيرة من مساحة البلدين، قيل إنها ستبقى وتتمدد أكثر.
وصحيح أن الهدف المنشود لا يزال بعيداً، لكن الوقائع كلها تشير إلى أن «الدولة» متماسكة إلى حد بعيد، كما تحولت أرضها إلى «مهجر» جذاب للشباب جاؤوا بأعداد غير مسبوقة، من الشرق والغرب على السواء.
وإذ تتنوع سير هؤلاء وتختلف دوافعهم وفق بلدانهم وأعراقهم وتجاربهم الفردية والعامة بما يمنع رسم خط واحد لهجرتهم، يبقى الأكيد أنهم لم يأتوا إلى سورية أو العراق بهدف القتال والشهادة فحسب، بل أيضاً للعيش في «يوتوبيا» الخلافة، وبناء أسرة والبحث عن مستقبل كما يحدث في أي مهجر آخر، من دون أن يشكل العنف المفرط وطرق استعراضه أو نمط الحياة وقسوتها أي رادع فعلي لهم.
وتتزامن الذكرى السنوية الأولى لدولة خلافة البغدادي، مع حدثين أساسيين أولهما تصريح لافت لوزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، كشف فيه أن واشنطن واجهت صعوبة قصوى في تجنيد وتدريب متطوعين من الجيش العراقي لخوض الحرب على «داعش»، وأنه «لم تكن هناك نية للقتال أصلاً» في عدد من المناطق. وثانيهما خطاب للعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، توجه فيه إلى الامتداد العشائري الأردني في العراق وسورية، وسلم خلاله «الراية الهاشمية» للجيش.
وفي وقت كان يفترض أن تقوم واشنطن بتدريب وتسليح نحو 24 ألف جندي عراقي في مهمة القضاء على «داعش»، ومثلهم أو أقل بقليل في سورية (وكان يمكن أن تنجح في مهمتها إلى حد بعيد لولا تلكؤ سياسي وعزوف شعبي)، فشلت الجهود الكبيرة المبذولة والإغراءات المقدمة في جذب أكثر من 7 آلاف متطوع في العراق، فيما البحث عن «معتدلين» لا يزال جارياً في سورية، ليبدو إذ ذاك أن «داعش» يجذب المتطوعين بأعداد أكثر ووتيرة أسرع مما يجذبهم منافسوه من جيوش وطنية أو «صحوات» عشائرية أو برامج تأهيل دولية.
ولكن تلك المساعي تفترض أيضاً، أن البحث عن تسليح المجموعات الأهلية من خارج المؤسسات العسكرية الرسمية، كالأكراد والعشائر السنية، يقوض فرص بقاء العراق ناهيك عن سورية، كياناً موحداً، وهي أصلاً فرص ضئيلة وهشة.
والحال أن تعويم هويات عرقية وطائفية بهذا الشكل المعلن والمباشر يؤدي إلى الإقرار التام (الدولي هذه المرة)، برفع حدود الدول التي بدأت «تجاهد لإثبات شرعيتها»، وفق كلام لقائد القوات المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي.
فصحيح أن «داعش» أطلق سباقاً للتسلح وملء الفراغ الأيديولوجي، فاستقطب الكثير ممن خذلتهم مصادر التمويل وخانتهم الأفكار أو طردتهم السياسة، لكنه أيضاً أطلق سباقاً محموماً وأكثر خطورة، نحو الشرعية والهوية الوطنية وأهلية الحكام في إدارة بلدانهم.
وليس ما يجري في الأردن اليوم إلا نموذجاً حياً عن هذه المعضلة الجديدة التي طرحت نفسها بسبب تمدد «داعش» وبقائه. فبغض النظر عما ذهبت إليه تأويلات كثيرة عن أدوار إقليمية يبحث عنها الأردن، وقد تكون صحيحة أو خاطئة، يبقى أن «لم شمل» العشائر الممتدة بين الأردن وسورية والعراق، تحت مظلة «شرعية» واحدة، يقول الكثير عن جوهر المسألة.
ذاك أن البحث عن سبل تحقيق انتصارات عسكرية على «داعش» ما عاد يكفي وحده عدا عن أنه صعب التحقيق، فتبين أنه لا بد من استنهاض هوية وطنية تقوم على مكونات رديفة ولكن متماسكة بما يكفي لشد العصب في مواجهة التنظيم. ولسان حال الأردن اليوم يقول أنه إذا كان لا بد من رفع للحدود بين البلدان الثلاثة، فثمة من هو أولى بهذه المهمة ولا تنقصه الشرعية. وبعيداً من احتمالات تمدد جغرافي فعلي، يبقى تمدد النفوذ السياسي أمراً قابلاً للتحقيق بالاعتماد على جيش وطني متماسك وقوي وسط جيوش منهارة خصوصاً بعد المهمة الأخيرة التي أنيطت به، وعلاقات دولية متينة، وخط سياسي وديني «معتدل».
أما الشعبية المتزايدة لـ «داعش» في الشارع الأردني وانضمام مزيد من الشبان إلى دولته في سورية، فمسألة ترتبط بمن يفوز في النهاية بذلك السباق المحموم نفسه.