أصيبت الديبلوماسية المصرية في الأسبوع المنصرم بصدمة لا بد أنه سيكون لها تأثيرها في نمط سلوك النخبة الحاكمة في القاهرة في المرحلة المقبلة.
ذهبت الديبلوماسيّة المصرية إلى نيويورك بعد مجزرة ذبح الأقباط المصريّين في ليبيا وهي تعتقد، رغم كل خبرتها ونضجها وعراقتها، أن ردهات المنظمة الدولية الكبرى ستكون مفتوحة بسهولة أمام أقصى أشكال وقرارات التضامن الدولي مع مصر بعد مجزرة بهذه الوحشيّة. وإذا بممثِّلي هذه الديبلوماسيّة الآتين من القاهرة أو المقيمين في نيويورك “يكتشفون” أن “اللعبة” الدولية وامتداداتها الإقليميّة تقيم عوائق أمام حريّة تحرك عسكريّة مشروعة في ليبيا افترضت القيادة المصرية أن الباب بات مفتوحا أمامها بعدما وصل الخطر المحقَّق على الأمن القومي المصري إلى هذا الحد.
باختصار، إذا كان لنا أن نصوغ حصيلة هذه التجربة المصرية في مجلس الأمن، فقد ظهرت “داعش” أقوى بكثير في نيويورك مما كانت الديبلوماسية المصريّة تعتقد! وأن ما صدر من إدانة في مجلس الأمن للمجزرة هو في الحد الأدنى فيما لم تحصل مصر على جزء ولو يسير مما حصلت عليه الدول الكبرى من حرية حركة في سوريا والعراق ضد “داعش” نفسها.
هل ستكون هذه التجربة الديبلوماسية الجديدة مصدرا لإعادة انضباط النخبة المصريّة الحاكمة بشكل أكثر صرامة في اللعبة الدولية وتناقضاتها المكشوفة أم ستكون حافزاً لمزيد من السعي للاستقلالية على المسرحين الدولي والإقليمي؟
علينا أن لا نبالغ في التوقّعات لأن قدرة الدولة المصريّة في ظروفها وظروف المنطقة الحالية على استقلالية أكبر لا سيما في المجال الإقليمي هي قدرة محدودة لاسيما على المستوى الاقتصادي، وهو نقطة ضعف مصر الكبرى في العصور الحديثة. لكنْ أيضا وبسبب غموض بعض مصادر الحرب الإرهابيّة التي تُخاض ضد الأمن المصري على “الجبهتين” الغربية والشرقية فلربما كان ذلك دافعاً مزدوجا في آن معا: شعور متنامٍ في أجواء القيادة والنخبة المصريّتين بوجود المؤامرة مما يستدعي تنويع العلاقات الدولية وفي الوقت نفسه اختبار أقصى درجات ضبط النفْس (والنفَس) بسبب حجم الخطر الوجودي على المنطقة المحيطة بمصر بكاملها وعلى مصر.
في خطابه المتلفز أمس الأول كرّر الرئيس عبد الفتاح السيسي أن الهدف هو تدمير مصر. لم يقل منْ يقف خلف الإرهابييّن ولكنه وضع المسألة في سياق جيل جديد من الحروب في عصر الانترنت أسماه “الجيل الرابع”.
الرجل رغم التحدّيات يستطيع أن يستند على إنجازات أكثر من عام ونصف العام من نجاح الدولة المصرية بقيادة المؤسّسة العسكرية ودعم ما أسمّيه دائما “الثقافة السلميّة للمجتمع المصري” في منع الحرب الأهليّة التي كانت نُذُرُها قد بدأت، وفي تحويل هذه الحرب بشكل عام إلى حرب جبهات حدوديّة أكثر منها داخليّة رغم كل العمليات التي تحدث بين الوقت والآخر في بعض المدن المصريّة.
هناك عنصر إيجابي جدا ظهر في خطاب الرئيس السيسي بعد طول تأخير وأخطاء نتجت عن هذا التأخير هو المتعلّق بالموقف من “الشباب” الناشطين المصريّين الليبراليّين وبينهم رموز في ثورة ميدان التحرير في 25 يناير 2011. فاعتراف السيسي بأن العديد منهم أبرياء هو بداية تراجع عن واحدة من أكبر أخطاء ما بعد انتفاضة 30 يونيو التي أنهت حكم “الإخوان المسلمين”. فقد تعامل النظام الجديد مع هؤلاء الشباب الديموقراطيّين بقسوة غير مقبولة وعامل بعضهم مثل معاملته لـ”الإخوان” رغم الفارق النوعي ليس فقط في الأفكار والمواقع بل أساسا لأن “الإخوان” انخرطوا في معركة أمنية خطيرة هدّدت السلم الأهلي المصري برمّته بينما هؤلاء الشباب مثّلوا استمرار مشروعية سلمية للمضمون الديموقراطي والمتنوِّر لثورة ميدان التحرير.
لا بد دائما من تكرار أن مصر تخوض معركة بقائنا كدول وكمجتمعات في المنطقة، وقد أظهرت تجربة السنوات الأربع المنصرمة أنه لا فارق بين انهيار الدولة وانهيار المجتمع وأن الانهيارين متلازمان وواحد كما ظهر في سوريا والعراق وليبيا واليمن وكما يمكن أن يظهر في لبنان والأردن ودول أخرى لم تظهر على “شاشة الحرب” بعد. هذا دون أن ننسى أننا عشنا معادلة التلازم الانهياري في حربنا الأهلية في لبنان بين 1975 و 1990.
ومع الاحترام لكل بقايا الوطنيّات العربيّة فإنّه لا يمكن الانتماء إلى دولة منهارة سواء بالمعنى الأمني الحالي أو بالمعنى الحضاري الذي وُلِدت منه وكنقيض لهُ فكرةُ “الدولة الفاشلة”.
قبل ” الربيع العربي” كنّا في “الدولة الفاشلة” وبعده صرنا في “الدولة المنهارة”. ما هو هذا المصير السيّئ؟ لذلك نراهن على مصر المتماسكة أمنيّاً في مواجهة ولمواجهة حالات الدول المنهارة في منطقتنا.