يثير تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» مروحة واسعة من الأسئلة المحقة وما يحيط بها من تساؤلات باعثة على القلق وامتداداً ليصل المرء معها إلى اللامكان وإلى حائط مسدود كالمياه التي تتسرّب لا محالة في كثبان الصحاري… فلا أجوبة محددة ولا تفسيرات توضيحية ترضي الشارع العربي بشكل عام، ومنها الحلبة الدولية التي أصبحت مستهدفة بدورها من ضرباته الإرهابية.
يجب الإقرار موضوعياً بأن البيئة الحاضنة والتربة الخصبة التي ولد فيها هذا التنظيم والتي يصح من دون ريب نعتها بالتخلّف ووصفها بأنها تختزن العديد من المعوقات التي تحول دون التطور، أي الأميّة والجهل والتعصّب بكل تلاوينه الفئوية والدينية والمذهبية والعشائرية والجهوية إلخ.. قد هيأت لهذا التنظيم الظروف المناسبة لولادته ونموّه وترعرعه وصولاً إلى استفحال شره ليصبح كما هي الحال الآن خطراً عالمياً. إلا أن هذه الظروف هي ظروف تاريخية عانت منها وما زالت المجتمعات العربية وكذلك تلك التي نطلق عليها تسمية العالم الثالث.
لكن السؤال التلقائي والبديهي الذي يطرح نفسه بإلحاح مثير هو: «لماذا الآن، ولماذا في هذه المرحلة التاريخية بالذات ولد هذا التنظيم؟ ولماذا تأخر ظهوره حتى اللحظة الراهنة؟». فلا بد والحالة هذه من البحث عن عوامل أخرى أبعد من التركيب البنيوي لهذه المجتمعات والتي ساهمت في ولادته وبروزه واستفحال شره.
إن ظروفاً إقليمية محدّدة، وتطورات سياسية معينة، وعوامل مؤثرة، ومعطيات جديدة تستدعي منا القراءة في العمق والتحليل والتركيب والمقارنة كي نتمكن من الإجابة عن سؤال: «لماذا الآن بالذات ولد تنظيم داعش».. فقد سبق للكثيرين، ونحن منهم، أن اعتبروا أن ضمور وتراجع المشروع القومي العربي وسقوطه هو الذي لعب دوراً رئيسياً في ظهور التنظيمات الإرهابية الدموية التي نواجهها الآن. فعندما خلت الساحة السياسية من قواها القومية والديموقراطية الحاملة المشروع القومي وأهدافه الكبرى وذلك لمصلحة العسكر وطموحاتهم الفئوية والمذهبية والعائلية والذين أصيبوا بهزائم عسكرية مدوية، فإن ذلك ترافق مع انحسار حركة الجماهير العفوية، بل تساوق ذلك أيضاً مع تعطيل مؤسسات المجتمع المدني، من نقابات عمالية واتحادات فلاحية ذات صدقية ورابطات كتّاب ومفكّرين حرة، فإن حرية التعبير والكتابة والنشر أُصيبت بالشلل والركاكة والانتهازية. هذا في ظل نمو سرطاني لأجهزة الأمن والمراقبة والتنصت حيث غصّت السجون والمعتقلات بالمعترضين والمعارضين وكل الذين تحوم حولهم الشكوك في رفضهم الإذعان لإرادة الحاكم الفرد وإطاعة نهجه الاستئثاري الجديد. فلا تسقط من ذاكرتنا مجازر حماه (1982) التي كانت علامة فارقة وموعداً مع الشعور بالحقد المذهبي السني حيال ممارسات عائلة الأسد الحاكمة وسياساتها الفئوية العلوية حيال الأكثرية السنية. ولا تغيب عن بالنا مجازر تدمر واعدام المعتقلين على يد رفعت الأسد آمر سرايا الدفاع ذلك الجيش الموكولة اليه آنذاك مهمة الدفاع عن النظام.
على اثر وفاة الأسد الاب هز العالم عام 2001 حادث مخيف في 11 ايلول عندما ضربت مجموعات انتحارية اهدافاً متعددة في أميركا. كان تنظيم القاعدة هو بطل الاعتداء. فبدأت حرب افغانستان حيث استقدم جورج بوش الابن تحالفاً دولياً لسحق «القاعدة» هناك. الا ان حادثاً آخر ما لبث ان تلاه عندما قام الأميركيون بغزو العراق عام 2003 واحتلال البلاد مباشرة بذريعة حيازة صدام حسين على اسلحة الدمار الشامل وشبهات مزعومة حول دعم تنظيم القاعدة. وكان الأخطر ما في الغزو ان قام الأميركيون المحتلون بحل الجيش العراقي برمته بلا تعويضات او محاولة استيعاب عديده في مرافق الدولة. وكأن الأميركي كان يوفر لداعش العناصر البشرية الضرورية لولادته.
كان داعش فصيلاً صغيراً غير واضح الأهداف، في جملة الفصائل الاسلامية التي انتشرت في العراق بعيد الاحتلال الأميركي. وكان عليه ان ينتظر سنوات عدّة ليشهد مرحلة الطفرة العارمة التي انتظرت قدوم نوري المالكي على رأس الحكومة وما غرق فيه ليس من فساد مالي واداري فحسب بل من سياسة التنكيل والتهميش بأهل السنة في العراق. وكانت بداية الثورة السورية (آذار 2011) هي الفرصة السانحة لداعش حتى يتحوّل الى دويلة سرطانية تقضم مناطق عدّة من العراق وتصل الى سوريا نفسها لتستقر على ضفاف الفرات.
بديهي ان داعش لجهة عديدها وعناصرها تغذت كثيراً بالعناصر البشرية التي توفّرت لديها من الضباط والجنود العراقيين المصروفين، وكذلك تلقّيها عناصر بشرية اخرى من الفارين من سجن ابو غريب وما رافق سقوطه من ملابسات تشير باصبع الاتهام الى نوري المالكي نفسه. الا ان الأخطر من ذلك هو الدور الخطير الذي لعبه بشار الاسد في دعمه اياه بعناصر بشرية سورية تلك التي مارست في السنتين الأوليين من الثورة السورية اعمال القتل والتصفية والفظائع، أولئك هم الشبيحة. لا بل شهدنا كيف استولى داعش على قسم من منابع النفط السوري والعراقي حتى يتوفر له المال اللازم لشراء المزيد من السلاح.
انه من المؤكد انه عملياً عن طريق تحويل الثورة السورية الى الارهاب واشاعة العنف الدموي بلا حساب في الموصل والانبار ونينوى والرقة بل في تدمر، وتوفّر عناصر ارهابية من شتى انحاء اوروبا والعالم العربي، فان ذلك سوف يفي بالحاجة الملحة التي يعوزها بشار الاسد لبقائه في السلطة. فبداعي تعرض نظامه للخطر جرى استقدام الميليشيات الشيعية وتدفق الحرس الثوري الايراني.
انها الذريعة الكبرى والمتوخاة لاستقدام التحالف الأممي العالمي لسحق داعش، بل هي الذريعة الكبرى للمزيد من التدخل الايراني وما هب ودب من الميليشيات الشيعية. وهي ايضا الذريعة الكبرى لافشال جنيف 2 وتحويل الأنظار والاهتمام هناك بعيداً عن جوهر الصراع الا وهو نظام الديكتاتوري الدموي الفاشي الى طرح شعار مكافحة الارهاب.
وهكذا تحوّلت هذه الذريعة الى واقع سوري مخيف عندما تدخّلت القوات الروسية بطيرانها المتطور وصواريخها البالستية. فبداعي محاربة داعش عمد فلاديمير بوتين الى تعديل ميزان القوى في ساحات القتال السورية لمصلحة النظام والميليشيات التي قدمت للحؤول دون سقوطه. بل بذريعة «داعش» أصبحت إسرائيل طرفاً معنياً بالحرب السورية ما دامت العمليات الجوية الروسية فوق أرضها تستوجب التنسيق المتواصل معها. بل بذريعة داعش أصبح حل الأزمة اللبنانية مرتهناً بالنتائج التي سيفضي إليها تورط حزب الله في حربه هناك.
لقد كانت فضيحة كبرى منذ شهور عندما دخلت قوات «داعش» مدينة تدمر من دون قتال مع قوات النظام، وكانت فضيحة أكبر عندما عادت قوات داعش لتسليمها مرة أخرى من دون قتال لقوات النظام الأسدي.
إن الخلاصة المتوجب الوصول إليها هي النتائج السياسية التي تدور حولها المفاوضات في جنيف3 الآن: إن ما يرمي إليه بشار الأسد ووفده المفاوض هناك بعد التدخل العسكري الروسي ثم انسحابه التكتيكي من سوريا هو فرض نفسه كجزء من الحل وكطرف مقرر في قلب المرحلة الانتقالية والحكومة الانتقالية المتوخاة.
لقد فجّر بشار الأسد داعش في وجه العالم، فضربت في باريس وبروكسل، وروّعت البشرية جمعاء، وستضرب مجدداً لأن بكل بساطة، رغماً عن مئات ألوف الضحايا السوريين، ورغماً عن الدمار الهائل الذي اكتسح مدن سوريا وبلداتها وقراها، ورغماً عن استخدامه المتمادي للسلاح الكيماوي، ورغماً عن حصاره الوحشي للقرى المعارضة وتجويعها حتى الموت، ما زال يظن أن بوسعه التجديد لنفسه لرئاسة أخرى.
فإما داعش وإما صانعه ومهندسه، فعلى العالم أن يختار بينهما. فلا نصابنّ بالدهشة والذهول بعد كشف فضيحة «أوراق بنما» أن الأسد لم يقتنع حتى اللحظة بوجوب تنحيه.