ما بين اليمن في أقصى الشرق وتونس في المغرب العربي، مروراً بالعراق وسوريا (من غير أن نغفل ما حدث ويُتوقع أن يحدث بعد في السعودية والكويت وصولاً إلى مصر عبر سيناء وفيها، فإلى ليبيا)، طوفان من الدماء المهدورة تغطي وجه الحاضر وتثير مخاوف جدية على مستقبل الشعوب والكيانات السياسية في هذه المنطقة.
تفجرت الأنظمة الحاكمة من داخلها، بعيوبها التكوينية كما بتداعيات الإرث الدموي الذي خلفه من أمسك بالسلطة قبلها، ممزقاً وحدة الشعب (كما في العراق). في حين كشف أخذه بالتحولات الاقتصادية التي أنهت أسطورة «الحكم الاشتراكي» أن أهل النظام الذين كانوا يهيمنون على السلطة ومصادر الثروة تحولوا ـ بلا جهد أو تمهل أو ندم ـ إلى فلاسفة يبررون العودة إلى «الاقتصاد الحر» بوصفهم أخبر الخبراء فيه.
ومؤكد أن فكرة الاشتراكية ومن ثم تطبيقاتها لم تتعرض إلى تشويه مدمر كالذي نالها على أيدي الأنظمة العربية، التي زعمت تصديها لقيادة التحول الاشتراكي بدءاً من «دولة جنوب اليمن» التي سقطت بالضربة القاضية قبل أن تكتمل مبررات وجودها، مروراً بالعراق وسوريا. في حين كان السادات قد تكفل بإنجاز التحول في مصر مسبغاً على العودة إلى النظام الرأسمالي إعلان التوبة عن خطأ التدخل في المقادير وإرادة الله: أليس جلَّ جلاله هو من يعطي ما شاء لمن يشاء؟
ومفجع أن يتحول العراق، وهو بين الأغنى في بلاد الله بالثروات الطبيعية (نهران كبيران في «أرض السواد» الخصبة، وحقول نفط هائلة التدفق والاحتياط) إلى بلد فقير، تعجز حكومته الحالية عن إعداد موازنة، وتلغي الإنفاق على مشاريع تنموية ضرورية مقررة، بينما هي تخوض حرباً شرسة ضد أعتى تنظيمات الإرهاب بالشعار الإسلامي «داعش». مع التنويه بأن هذا التنظيم قد كسب في «غزوة» الموصل حوالي خمسمئة مليون دولار، كانت في خزينة المحافظة، إضافة إلى أرتال من الدبابات والمصفحات والمدافع، فضلاً عن السلاح الخفيف وكميات هائلة من الذخائر.. ثم الأرض وما فيها ومن عليها.
اللافت أن حكم الطغيان والحروب العبثية ممثلاً بعهد صدام حسين قد تسبب في تسليم العراق إلى الاحتلال الأميركي، وفي ظله تم استبدال «الهيمنة السنية» «بهيمنة شيعية». فإذا الطرفان يتباريان على موقع الأعظم فساداً وإفساداً، كما في المسؤولية عن تعريض وحدة الشعب إلى خطر التمزق على قاعدة مذهبية، بعدما كان الأكراد قد ذهبوا إلى مشروع دولتهم في كردستان العراق، فحصدوا جوائز الدولة المركزية في بغداد ومعها إسناد القوى الدولية التي لا تريد عراقاً موحداً. هكذا، باتت أربيل مجمعاً لكل المستفيدين من اللعب على صراع الأعراق والعناصر والقوميات، وفيهم بعض العرب والترك والغرب والشرق معاً، وقبلهم وبعدهم إسرائيل.
فلما اندفعت جحافل «داعش» آتية عبر الحدود التركية، كما من «قاعدتها الأولى» في الرقة السورية التي بناها في زمن الزهو بالفتوحات الخليفة العباسي هارون الرشيد، لم تجد من يصدها أو يوقف زحفها.
وانهالت الأسئلة»: كيف تمكنت تلك الجحافل من قطع مئات الكيلومترات من دون أن يتصدى لها أحد فيصدها؟ من سلَّحها ومن موَّلها؟ وأين دُربت مجموعاتها وأتمت حشدها؟ ثم من يقودها بكفاءة الخبير المدرب العارف بطبيعة الأرض وناسها؟
وسرعان ما تبين أن الكتلة الكبيرة من هذا الحشد، ومن قياداته بالتحديد هم من الضباط العراقيين الذين كانوا في مراكز حاكمة إبان عهد صدام حسين، والذين تم تسريحهم بغير مبرر معلن قابل للتصديق، إلا كونهم من «أهل السنة»، ثم جيء بمرؤوسيهم من «الشيعة» ليحلوا محلهم، بمعزل عن الكفاءة والأهلية.
انشق العراق على قاعدة مذهبية ـ عنصرية، فانهارت دولته. ثم ذهب الفساد نادر المثال بحجمه وبشموله، بما تبقى من روابط تؤكد وحدة شعبه الذي غرق في مستنقع الفتنة التي قد يستهلك تجاوزها زمناً طويلاً، بينما الوقت في مصلحة الدواعش الذين يعملون بلا كلل على النفخ في أسطورة «خلافتهم»، مستفيدين في ذلك من سياسة بعض الأنظمة التي تعتمد الفتنة خطة لحماية وجودها وتأمين مداها الحيوي، ولو تطلب الأمر إغراق جوارها بدماء أهله.. المسلمين! (اليمن نموذجاً).
وبالتأكيد فإن الحرب في سوريا وعليها ما كانت لتأخذ هذه الأبعاد الدموية الهائلة، المغطاة بقشرة من السياسة لتمويه حقيقة الصراع وإعطائه البعد الطائفي بالتركيز على «الهيمنة المذهبية» التي جعلت السلطة في أيدي «العلويين» مستبعدة «الأكثرية السنية» عن مركز القرار، لولا انفجار أو تفجير العراق بالفتنة المذهبية.
وكان بين ما سهَّل تبرير «الثورة» قصور النظام في المعالجة، خصوصاً وقد كان تخلى عن الشعارات الاشتراكية وحكم الحزب الواحد الذي لم يكن في أي يوم حزباً، عائداً إلى رأسمالية الدولة، فاتحاً الأبواب أمام المستثمرين ووكلاء الشركات الأجنبية، على أن يكون لهم من بعض أهله «شركاء».
فالوحدة الوطنية لا تقوم بالأمر، خصوصاً مع شبهة استئثار فئة معنية بالسلطة، تحاول عبثاً أن تغطي تحكمها بالشعار الحزبي الذي أسقطه مرور الزمن وهيمنة «الأجهزة» على مختلف وجوه النشاط، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
ثم إن دولاً عديدة كانت قد دخلت في خصام مع هذا النظام، ربما لأنها عجزت عن الهيمنة على قراره، أو لأنها فشلت في تعديل توجهاته السياسية. هكذا اندفعت قطر إلى تمويل المعارضات السورية وتسليحها. ثم سرعان ما انضمت إليها تركيا التي كانت «الصديق المقرب» فانقلبت إلى العداء المكشوف الذي يقارب حافة الحرب، ومن بعد انضمت السعودية مغلبة في الخصومة الذريعة المذهبية على التوجه السياسي.
وبالتالي، بات من السهل استخدام السلاح الطائفي المسموم، في سوريا بعد العراق، ورفع الصوت بظلامة «أهل السنة»، بعيداً عن «السياسة» ومن خارجها.
وهكذا جاءت «عاصفة الحزم» التي تم التركيز فيها على «الحوثيين»، باعتبارهم من سادة «الزيود» الذين يُعتبرون أقرب ـ مذهبياً ـ إلى الشيعة، فتم إخراج الصراع من طبيعته السياسية ليغدو حرب الأكثرية السنية في المشرق العربي ضد الأقلية الشيعية، بعد دمغها بالولاء لإيران.
ومن السهل في هذه الحالة، تحميل إيران (الشيعية) المسؤولية عن «القهر» الذي بات يعاني منه «السنة» في العراق وسوريا، وأخيراً في اليمن، مما يذر بذور الفتنة الكبرى ـ مرة أخرى ـ على امتداد المشرق جميعاً، لا سيما في غياب مصر التي كان مسلَّماً لها بدور المرجعية السياسية، والتي كانت ـ بحجمها ودورها القيادي وبإسلامها المعتدل ـ توفر الطمأنينة للخائف والضمانة للمستريب.
باختصار، نحن أمام واقع جديد في المشرق العربي: هناك دولتان مركزيتان، العراق وسوريا، معتلتان، وتواجهان ـ بقوة السلاح ـ خطر أفظع إرهاب مسلح يتلطى بالشعار الإسلامي، ويلتقي ـ موضوعياً ـ مع دول يقوم حكمها على فرضية أنها مصدر الدين الحنيف وحاميته.. وقد تصادف أنها الأغنى، وأنها ـ بثرواتها ـ تمثل مصالح إستراتيجية وحيوية للغرب أساساً، وللشرق الروسي ـ الصيني الذي هجر الشيوعية ودخل في المنافسة مع أهل الرأسمالية.
وتصادف أيضاً أن «دولة المركز»، مصر، مشغولة بهمومها الاقتصادية أساساً، ومعها الأمنية الثقيلة، بعد اقتراب «داعش» من حدودها عبر سيناء، كما عبر ليبيا. وما الأحداث الدموية الثقيلة التي شهدتها بعض المناطق في سيناء إلا جرس إنذار بأن هذا التنظيم الإرهابي يحاول ـ بالسلاح ـ أن يعيد أسلمة المسلمين في مصر، وإخراجهم من اعتدالهم لبث الفتنة في البلاد التي عرفت بصفاء تدينها وتسامح أهلها والتي لعبت دور القيادة في زمن الصعوبة لأمتها العربية، كما تصدرت الدول الإسلامية بأهليتها.
إنها الحرب على العروبة والإسلام معاً. ومن أسف فإن بعض القادة في دول العرب والمسلمين يوفرون لهذه الحرب الذخيرة السياسية والحربية انطلاقاً من أحقادهم ومن قصور أهليتهم عن لعب الدور القيادي المطلوب للخروج بهذه الأمة من مأزقها الخطير، حيث إعادة أسلمة أهلها بالمسلمين وإخراجهم من عروبتهم بالقوة لا يعني إلا تدمير المستقبل عبر اغتيال الحاضر.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية