في 9 حزيران (يونيو) 2014، احتل تنظيم «داعش» مدينة الموصل طارداً منها القوات العراقية. ومن جامع النوري الكبير أطل أبو بكر البغدادي للمرة الأولى في 3 تموز (يوليو) 2014 ليؤم المصلين معلناً في حينه إقامة «الخلافة» في العراق والشام.
يوم الإثنين الماضي، تقدمت القوات العراقية لانتزاع آخر معاقل التنظيم في العراق، بعد احتلال دام ثلاث سنوات، أي نحو ألف يوم. ولكن الضجيج الإعلامي الذي أطلقه ضحايا الرؤوس المقطوعة والأجساد المحروقة والبيوت المنسوفة، كان ينبئ عن ظهور حركة إرهابية لم يعرف التاريخ المعاصر مثيلاً لها.
ومع أن عملياتهم الإجرامية كانت مغلفة بوعود في الجنة، إلا أن ارتكاباتهم الظلامية كادت تجعل من جحيم «دانتي» نعيماً بالمقارنة بأعمالهم الوحشية.
والثابت أن البغدادي ظل متوارياً عن الأنظار في مكان مجهول لا يستعمل الهاتف، خوفاً من اكتشاف أمره بواسطة أجهزة التنصت والأقمار الاصطناعية. وهذا ما كان يفعله صدام حسين أثناء اختفائه في حجرة تحت الأرض.
آخر خطاب مسجل للبغدادي صدر في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أي بعد أسبوعين تقريباً من بدء معركة تحرير الموصل. واقتصرت عباراته على تشجيع أتباعه على محاربة «الكفار» والاستشهاد.
ويرجح القادة العسكريون العراقيون أن البغدادي عقد اجتماعاً موسعاً مع مساعديه، وطلب منهم استئناف القتال في الموصل والرقة، قبل أن يهرب الى مكان آمن. ويتردد في الموصل أنه سلم الأمر الى وزير دفاعه إياد العبيدي والمسؤول عن سلامته إياد الجميلي. ولكن وزارة الدفاع العراقية زعمت أن الجميلي قُتِل في الأول من نيسان (ابريل) الماضي، بينما كان يقاتل على رأس «فرقة الشهداء».
على امتداد سنتين ونصف، ظل البغدادي يتنقل بين الموصل والرقة. ولكنه حالياً يرجح أن يكون لجأ الى الصحراء الواسعة بين العراق وسورية. وهو يستخدم في تنقلاته سيارات عادية للتضليل، أو شاحنات كالتي يستعملها المزارعون.
وبما أنه يعرف قوة المال وإغراءات مكافأة الـ25 مليون دولار التي خصصتها واشنطن لمَن يرشد الى موقعه… فهو يعتمد تغيير حراسه كل شهر تقريباً. وقد اكتفى مؤخراً بانتقاء حارسين اثنين من أنسبائه، الأمر الذي يجعله دائم التوتر والتنقل.
وبما أن البغدادي يتوقع أن يتعرض للاغتيال في كل لحظة، لذلك يحرص على حماية نفسه برشاش وحزام ناسف، مثلما كان يفعل أسامة بن لادن. وأكثر ما يزعجه هو أن ينجح الروس أو الأميركيون في تخديره وأسره حياً من أجل تقديمه للمحاكمة باسم آلاف القتلى.
المنافسة بين الروس والأميركيين على قتله أخذت بعداً سياسياً جديداً، عندما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن لديها معلومات تدل على مقتل البغدادي في إحدى الغارات على مدينة الرقة، عاصمة التنظيم. وأوضحت الوزارة أن الغارة نُفذت في آخر الشهر الماضي ضد مركز قيادة تابع للتنظيم.
ووفق معلومات موسكو، فقد أسفرت الضربة عن مقتل ثلاثين قيادياً بينهم البغدادي وأمير الرقة أبو الحاج المصري ورئيس جهاز الأمن التابع لـ «داعش» سليمان الشواخ، وأمير مدينة السخنة ابراهيم النايف الحاج.
وقد اعترف الرئيس فلاديمير بوتين أنه تلقى من ديمتري بيسكوف تقريراً كاملاً مزوداً بالصور يؤكد تدمير أربعة منازل كانت تجمع قيادة التنظيم، إضافة الى ثلاثمئة مسلح من المرافقين.
من جهة أخرى، اعترف الناطق بلسم دول التحالف الكولونيل ريان ديلون بأن معلوماته لا تثبت أن الادعاء الروسي صحيح.
ويرى بعض المراقبين أن البغدادي اقتبس من النازيين، الذين خسروا الحرب العالمية الثانية، درساً في التخفي. ذلك أنهم لجأوا الى الدول البعيدة المتعاطفة معهم مثل الأرجنتين وكوستاريكا.
لهذا السبب يتوقع هؤلاء المراقبون أن يكون البغدادي وأفراد حاشيته قد هربوا الى جنوب شرق آسيا، وتسللوا متخفين بعدما حلق «الخليفة» أبو بكر لحيته الكثة.
وكان من الطبيعي أن يزداد هذا الشعور بعدما عينت قيادة «داعش» الجهادي المتشدد اسنيلون هابيلون أميراً وممثلاً لها في كل مناطق جنوب شرق آسيا. وهو معروف بين الجماعة باسم «أبو عبدالله الفيليبيني».
والمؤكد أن اسنيلون تعرض للاختبار قبل ترجيح حظه في مضمار القتال. وقد سجل انتصارات عدة على الجيش النظامي في مدينة ماراوي الواقعة في جزيرة منداناو، جنوب الفيليبين. كما سجل أيضاً أعمالاً إرهابية عدة أهمها التفجير في مدينة دافو السنة الماضية. وذكرت الصحف في حينه أن مسلحي التنظيم احتلوا الشوارع الرئيسية في المدينة، ورفعوا علم «داعش» على مبنى البلدية. كما قاموا أيضاً بإحراق كنائس ومدارس رسمية عدة، ثم أنهوا عملياتهم بخطف رهبان كاثوليك كرهائن.
ووفق تقدير الإدارة الأميركية، فإن «داعش» يطمح في جعل الفيليبين نسخة أخرى عن أفغانستان تحت حكم «القاعدة». وربما شجعه على اتخاذ هذا القرار عاملان مهمان: أولاً، فشله في ترسيخ تنظيم «داعش» في العراق وسورية. ثانياً، رهانه على اختراق سريع في البلدان ذات الغالبية المسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا. وهو يتوقع لدعوته انتشاراً سريعاً.
قبل سنة تقريباً لم يكن هذا الخيار مطروحاً. والسبب أن قيادة «داعش» اكتشفت في ليبيا مجموعات مستعدة للتعاون معها، والعمل في خدمة تمثيلها، خصوصاً أن هذا البلد العربي كان يعاني من حالات الشرذمة والتفكك.
وعندما اشتدت وطأة الهجمات الجوية على مواقع «داعش» إثر عمليات مكثفة كانت تقوم بها طائرات دول التحالف وروسيا، اقتنع البغدادي أن من المناسب نقل العمليات الى مكان آخر. وفي ضوء تلك الحاجة، اختيرت مدينة درنة الليبية مركزاً مثالياً لانطلاق أنصاره باتجاه الجزائر وتونس والمغرب ومصر.
نجح تنظيم «داعش» خلال فترة قصيرة في استقطاب عناصر مختلفة من الفصائل الإسلامية المسلحة. وانضم اليه عدد كبير من أعضاء تنظيم «القاعدة» من الذين يؤمنون بمشروع «الخلافة».
وفي درنة شهد مقاتلو التنظيم موجات من خارج الحدود كانت تعلن الالتحاق بهم مثل مجموعة «بوكو حرام» النيجيرية، إضافة الى عدد من تجار المخدرات والمهربين الذين يستقوون بالمسلحين، ويتقاسمون معهم المكاسب والغنائم. وبرزت في تلك المرحلة أسماء مقاتلين غرباء عن ليبيا مثل «أبو طلحة» اللبناني وزهير التونسي. كما برزت تنظيمات معارضة مثل «قوات البنيان المرصوص» التي موّلتها الحكومة الليبية وأطلقت يدها في سرت ودرنة.
ومن المؤكد أن الارتكابات والتجاوزات التي نفذتها عناصر «داعشية» بحق المواطنين كان لها أكبر الأثر في طرد ممثلي «الخليفة». لذلك تقلص نفوذ التيار السلفي الجهادي في غرب أفريقيا، الأمر الذي استدعى انسحاب أكثر من ألفي مقاتل.
وكان من المتوقع أن يثير نزوح المقاتلين الى أوروبا عاصفة من القلق لدى وزراء الداخلية في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وحتى أستراليا.
وسافر وفد حكومي بلجيكي الى بغداد للتشاور مع حكومتها في شأن أسماء «الداعشيين» الخطرين. وكان الوفد يتألف من وزراء الدفاع والداخلية وشؤون الهجرة. وعادوا بحصيلة تؤكد وجود 622 إرهابياً جاؤوا من بلجيكا. وقبل أن يعود الوفد الى بروكسيل، كان نشاط المتسللين يظهر في العاصمة والمدن الأخرى.
ونشرت صحيفة «التايمز» اللندنية خبراً مفاده أن الاستخبارات البريطانية رصدت دخول 350 عنصراً ممن حاربوا في سورية، ثم عادوا الى بريطانيا كونهم يحملون جنسيات مزدوجة. وذكرت أسماء عشرة أشخاص وصفتهم بـ «الخطرين جداً» بينهم طارق حسانة.
واعترف رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية الداخلية «MI 5» بأن هناك أكثر من 850 عنصراً غادروا بريطانيا للقتال في سورية، وبأن عودة 350 منهم فقط تؤكد مقتل الآخرين، أو انتقالهم الى أستراليا.
وأصدرت وزارة الدفاع الأميركية تحذيراً للدول الأوروبية تؤكد فيه وصول دفعات من الانتحاريين اليائسين الى أوروبا، وأن بعض المعتقلين منهم اعترف بممارسة سياسة «الأرض المحروقة»، تماماً مثلما فعل رفاقهم في الموصل الذين نسفوا أقدم جامع قبل انسحابهم. وهو الجامع الذي أطل منه أبو بكر البغدادي.
وتقدر الوزارة أيضاً أن العمليات العسكرية في سورية فقط حصدت أكثر من 25 ألف مقاتل من جماعة «داعش» منذ خريف 2014.
يرى المسؤولون في أوروبا أن عودة المتشددين الى بلدانهم، بعد تحرير العراق وسورية، تمثل التحدي الجديد لما بعد نهاية هذه «الدولة» التي استمرت ألف يوم تقريباً.
والسؤال الذي ينطلق من هذه الفرضية يتعلق بالخطوات السياسية والعقائدية التي ستنتج من هذه المحاولة البائسة.
آخر خليفة كان السلطان العثماني عبدالمجيد. وقد طرده كمال أتاتورك سنة 1924. وكان من حصيلة سقوط السلطنة ولادة حركة «الإخوان المسلمين» في مصر. وقد عرفت محاولات فاشلة مثل أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه «خليفة» على منطقة مساحتها 300 ألف كيلومتر مربع، أي ما يساوي تقريباً مساحة إيطاليا، ويقيم فيها 8 ملايين شخص.
وبعد سقوط «الخليفة» البغدادي، يقول أتباعه أنه يجب استبداله بـ «خليفة» آخر يجدد المحاولة. وهذا هو معنى كلمة «خليفة».
والسؤال الأخير: هل تتكرر هذه التجربة؟!