رابحان سعيدان بعد الاطلاع على نتائج المؤتمر الوزاري الذي عقده في باريس التحالف الدولي – العربي ضد تنظيم داعش الثلاثاء الماضي: إيران وتنظيم داعش.
اللقاء الذي انعقد بعد سنة على سقوط الموصل، وتسعة أشهر على إطلاق استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما «لتحلل وتدمير» تنظيم داعش، وجد نفسه أمام مخاطر إضافية ونجاحات مذهلة للتنظيم تمثلت بالسقوط المتوالي لمدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار في العراق، وسقوط تدمر في قلب الوسط السوري، مع ما يعنيه ذلك من سقوط المزيد من موارد الطاقة ومصادر الدخل بيد التنظيم. كما وجدوا أنفسهم أمام المزيد من التحفز الإيراني للتدخل أكثر في العراق إما مباشرة، كما كشف قائد القوة البرية للجيش الإيراني العميد رضا بوردستان، وإما عبر الميليشيات الشيعية الموالية لطهران والعاملة في نطاق استراتيجيتها.
المجتمعون في فرنسا ناقشوا خطواتهم حيال تنظيم أقوى، وأغنى، ويسيطر على جغرافية نامية تعادل الآن نحو 300 ألف كلم مربع. وهو ما اعترف به رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي صراحةً. رغم ذلك خرجوا بالتأكيد على السياسات نفسها التي ساهمت في نجاحات «داعش» وطهران معًا، بل ذهبوا بعيدًا في التطبيع مع أهم عناصر نجاح «داعش»، وأهم عناصر تمدد النفوذ الإيراني في العراق، حين أعلنوا عن دعمهم «الخطة العسكرية – السياسية للحكومة العراقية بمشاركة الحشد الشعبي، لاستعادة المناطق التي يحتلها التنظيم».
المهم في هذه العبارة هو الجزئية الواقعية منها، وهي تغطية دور ميليشيات مذهبية شيعية في محاربة تنظيم سني يفوقها مذهبية. أما ما يتعلق بالتأكيد الفارغ على الخطة السياسية للحكومة العراقية فهو من لزوم المجاملات ورفع العتب السياسي، ولا مكان له في واقع سلوك حكومة حيدر العبادي حتى الآن.
فهذه العبارة من الخطر بمكان، لأنها تقدم خدمة مزدوجة لعدوين لدودين يتغذى كل منهما من قوة الآخر، وتعزز تلاقي مصالحهما في إضعاف الدول التي يتخذون منها مسارح لصراعاتهم ومد نفوذهم.
فإيران التي كانت مساهما أساسيا في إسقاط نظام صدام حسين والدولة الإقليمية الأكثر تأثيرا في صياغة عراق ما بعد صدام، لم تقم إلا بكل ما من شأنه إضعاف الدولة العراقية ومؤسساتها ومنع قيامها، بموازاة حرصها على تقوية الشيعة كمكون مذهبي تصادمي مع بقية العراقيين، بما يسهل استتباعهم وتشغيلهم ضمن استراتيجية مد النفوذ الإيراني، أي تحويل الشيعة في العراق إلى قوة ديموغرافية وسياسية واقتصادية قوية، إنما بلا دولة، ما يجعلها قوة تستمد أسباب ازدهارها ودوام نفوذها من قدرتها على إرضاء إيران.
وبتغطية مؤتمر باريس لدور الحشد الشعبي في الحرب على «داعش»، بدا المؤتمرون وكأنهم رجع صدى لما أعلنته إيران قبل أيام على لسان ممثلها في لبنان أمين عام حزب الله حسن نصر الله، حين دعا صراحة إلى تصدير ثلاثية الخراب: الجيش والشعب والمقاومة، قائلاً: «هذه معادلة الانتصار، هذه معادلة الردع، فلنخرجها من دائرتها اللبنانية، بدلاً من إلغائها، ونقدمها معادلة لسوريا، وقد بدأتها سوريا من سنوات، ونقدمها معادلة للعراق وقد بدأها العراق من سنة، نقدمها معادلة لليمن وقد بدأها اليمن منذ 60 يومًا». لا حاجة للتذكير بأن هذه المعادلة وصفة سحرية لدوام ضعف الدولة، والهيمنة عليها واستتباع جيشها جزئيا أو كليًا في سياسة المحور الذي تمثله «المقاومة»، أما مفردة الشعب فلا تحتاج إلى أدلة على أن المقصود بها المكون المذهبي من هذا الشعب المتفق مع المقاومة ومحورها، وهو أغلبية الشيعة في لبنان والعراق والحوثيون في اليمن.
الحقيقة أن «داعش» لا تقل سعادة عن إيران؛ فكلما أوغلت الأخيرة في إضعاف الدولة، لا سيما في العراق، واستنفار الحساسيات المذهبية، وجد التنظيم أرضا خصبة لعقيدته ومشروعه، ونجح في استقطاب السنة إلى كنفه وفصلهم عن أي عملية سياسية. وإيران، عبر الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في سوريا، تقوم بما كان يحلم الأب الروحي لـ«داعش»، أبو مصعب الزرقاوي، في دفع إيران للقيام به. استراتيجية الزرقاوي قامت ببساطة على ممارسة أبشع أنواع العنف بحق الشيعة، بغية استدراجهم إلى ردود فعل تجعل من السنة أهدافا خائفة ومذعورة، وبالتالي تحيلهم إلى بيئة حاضنة تستظل حماية تنظيم داعش في العراق. استراتيجية الزرقاوي تضعها إيران اليوم موضع التنفيذ، بعد عقد على مقتل صاحبها، وترفد «داعش» بكل الأسباب الآيلة إلى تعزيز نموه.
«داعش» يربح حين يربح. هذا مفهوم. لكن الأخطر أن «داعش» يربح حتى حين يخسر. فخسارة «داعش» لا تقابلها المصالحات الوطنية الضرورية لرأب الصدوع بين السنة والشيعة. حدث ذلك بعد أن هزمت الصحوات تنظيم القاعدة في الدساكر والمدن نفسها التي تحتلها «داعش» اليوم في الأنبار، وما لاقت من حكومة المالكي وضعف الرؤية الاستراتيجية الأميركية إلا كل ازدراء لمصالحها وحاجاتها. لن يكرر السنة اليوم تاريخ تجربة الصحوات، ما يضع قطاعات متنامية منهم أمام خيار التعايش الاضطراري مع «داعش» أو الانكسار على يد الميليشيات الشيعية والعيش بدونية سياسية في كنفها.
وفيما يتبادل «داعش» وإيران تقاسم نتائج مؤتمر باريس، تغرق أميركا في فضيحة غياب أي استراتيجية جادة لتصحيح مسار الاندفاع نحو حرب سنية شيعية شاملة في المنطقة، مكتفية بسياسات اللوم ومداراة الخيبة.
في لعبة اللوم اتهمت واشنطن في تغريدات على الحساب الرسمي لسفارتها في دمشق، على موقع «تويتر»، النظام السوري بتنفيذ غارات جوية لمساعدة تنظيم داعش على التقدم حول مدينة حلب بشمال البلاد. وفي مداراة الخيبة كانت صحيفة «نيويورك تايمز» تنشر تقريرًا فاضحًا عن الغارات الجوية الأميركية على «داعش» في العراق. يفيد التقرير بأن طلعة جوية واحدة من كل أربع طلعات تنتهي باستهداف أهداف لـ«داعش» فيما تعود الطائرات في الطلعات الثلاث المتبقية من دون إلقاء أي ذخائر.
في هذه الأثناء تنظيم «داعش» باق ويتمدد.