Site icon IMLebanon

«داعش» اللاعب وليس اللعبة

الاتهامات المتبادلة بين المتصارعين تعتبر «داعش» لعبة ينسبها كل فريق إلى الفريق الآخر. وقرأنا ونقرأ أن «داعش» يد تركيا أو صنيعة إيران أو فرع من أمن النظام السوري أو وسيلة من وسائل الولايات المتحدة، كما يتردد أنه تنظيم إسرائيلي يفتت المجتمعات العربية ويرسم للمسلمين صورة منفّرة.

ربما تبدو الاتهامات مقنعة في محطات معينة من حروب المنطقة، لكنها سرعان ما تفقد عنصر الإقناع، حين يدعم «داعش» فجأة من كنا نظنّهم أعداءه المعلنين.

الواقع أن «داعش» لاعب وليس لعبة، على رغم حداثة نشوئه وإعلان «خليفته»، وهو يظهر في صورة اللعبة لأنه بذلك يكرّس وجوده ويتوسّع من خلال خلافات تحوّلت إلى ما يشبه الحروب الإلغائية.

انطلق التنظيم في العراق في عامي 2009 و2010 بجهود أيديولوجيين من جماعة الزرقاوي عقب مقتله، ومعظم هؤلاء من العراق ومعهم عناصر قليلة سورية ومصرية لم تستطع الهرب بعد هجوم الصحوات، فانتشرت في مدن الأنبار وقراها. وشكّلت سياسة نوري المالكي الطائفية عام 2011 وبدء الانسحاب الأميركي فرصة لعودة نواة «داعش» إلى المدن السنّية المتذمّرة، وهنا بدأ انضمام ضباط عراقيين أعطوا خبرتهم إلى التنظيم.

ولم يكن العراق مؤهلاً لتوسُّع «داعش» فانتقل معظم عناصره إلى مناطق سورية خاضعة لسيطرة ثوار من بينهم «جبهة النصرة» التي لم ترحب بهم، فيما استقبلهم سائر الثوار بترحيب، وتعهّدت نموّهم تركيا، خصوصاً بعد إعلان واشنطن «النصرة» عام 2013 تنظيماً إرهابياً. كانت أنقرة في حاجة إلى ورقة ضغط في سورية والعراق من دون أن تلوِّث يدها مباشرة، وقد أثبت «داعش» منذ انطلاقه قدرة تنظيمية، ولم يتسبب بتنفير اللاعبين إلاّ بعد إعلانه «الخلافة»، فتنبّه الجميع إلى خطورته وكفّت تركيا يدها عنه بعدما صار فتيّاً وقادراً.

«داعش» لاعب واضح في خريطة المنطقة نتيجة اختلاف الأولويات بين القوى الإقليمية والدولية، وهو يدخل من خلال هذه الأولويات ليتوسّع مستغلاً الصراع التركي- الإيراني الحاد وغير المعلن، واعتقاد روسيا أنها تستطيع الحسم في سورية لمصلحة النظام، وأولوية طهران في الاستيلاء على لبنان والسيطرة بحدود ما في سورية والعراق.

وتبدو الاتهامات المتبادلة بين اللاعبين حقيقية، حين نرى «داعش» يخدم تركيا هنا ويخذلها هناك، والأمر نفسه يحدث مع إيران والنظام السوري. وحدهما الولايات المتحدة وغالبية الأكراد تدعوان لضرب «داعش» بقسوة وتمارسان ذلك حين تدعو الضرورة.

أما آلية الخدمات المتناقضة التي يقدّمها «داعش»، فتقترحها طبقات التنظيم وتنفّذها بعد موافقة القيادة، وهي قيادة حديدية استطاعت النجاح باللعب على أولويات المتصارعين الكبار.

وتبدو تناقضات ليبيا اللعبة الجديدة لـ «داعش» الذي يهدد بالسيطرة على مصادر النفط والامتداد في أفريقيا، مستغلاً إعطاء الولايات المتحدة وكالة التدخُّل إلى أوروبا ومصر، وكلتاهما تتردد وتحاول التأثير من خلال نزاعات ليبية – ليبية بلا أفق، فالسياسيون الليبيون فقدوا دولتهم فجأة، فانكفأ بعضهم واعتزل، فيما يتحرك الآخرون بالاستناد إلى هذه أو تلك من الدول التي تحاول التأثير، مثل إيطاليا وفرنسا ومصر ودولة الإمارات وقطر والجزائر. وهنا تتناقض المصالح أو تتفق، وتبقى وجوه ليبيا عاجزة عن الاجتماع في وجه واحد.

كنتُ طلبتُ من باحثة ليبية مقيمة في فرنسا مقالاً عن أحوال بلدها في المرحلة الأخيرة، فاعتذرت مرات عدة، وفي مطلع الأسبوع أرسَلَتْ هذه الكلمات: «تشرق الشمس على ليبيا كما تشرق على أي مريض. هي في غرفة إنعاش ذات نافذة وحيدة مفتوحة على سماء الله».