استراتیجیة«التنظیم»: ضرب التماسك الوطني وتنفیذ عملیات تثیر الغرائز والفتن الطائفیة
«أبسط ما فعلته جریمة طرابلس هو أنها زادت كشف هشاشة الأوضاع اللبنانیة، من حیث قیل أن ردود الفعل علیها أظهرت صلابة العیش المشترك، لا بل إن الحد الأدنى المنطقي هو أن یفتح هول الجریمة العیون على الأخطار القریبة والبعیدة، لكن بعض ما حدث فتح الباب لسجالات ذات طابع خطر وسخیف معاً.. كل زلزال سیاسي في المنطقة له هزات ارتدادیة في لبنان».
من تقریر لمركز «الروابط للبحوث والدراسات الاستراتیجیة» تعلیقاً على قیام عبد الرحمن المبسوط بعملیة إرهابیة صادمة في شهر حزیران من العام 2019 وحینها لم تكن المؤشرات توحي باحتمال وقوع مثل هذه العملیات، بعكس الظروف الراهنة التي تفتح الأبواب على كلّ الكوابیس المخیفة.
تُشَكِّلُ حالات الفوضى الملاذ الأفضل للتنظیمات الإرهابیة والمدخل النموذجي للانتشار والتوسّع، وهذا ما یُقبل علیه لبنان مع الانهیار الذي یضرب ركائز الدولة والمجتمع، مما یفتح شهیّتها على إعادة المحاولة مجدّداً مع تتابع تداعیات هذا الانهیار وظهور أوضاع اجتماعیة مستجدة، سبق لهذه التنظیمات أن خبرت مثیلاتها في دول عانت من التفكّك السیاسي والفوضى الأمنیة، مثل الصومال وأفغانستان والعراق وسوریا، وسیكون من السهل علیها التغلغل في هذه البیئات التي تدخل حدیثاً الجحیم الاقتصادي والأمني.
في لبنان من المتوقع أن یظهر أثر السیاسات الجدیدة لتنظیم الدولة على شكل استیقاظ للخلایا النائمة، والقیام بعملیات ذات مغزى تحفیزي، وهو ما بدا أنّه یحصل بشكلٍ بدائي في طرابلس من خلال استهداف العضو السابق في مخابرات الجیش أحمد مراد في 22 آب 2021 وإلقاء القبض على أشخاص یحملون لوثات فكریة متطرفة، إضافة إلى إلقاء القنابل والقیام بمناورات عسكریة بالسلاح الفردي، في استغلال واضح لحالة الفوضى الأمنیة التي تنفلت بین الحین والآخر في الفیحاء.
نقل مطّلعون على أجواء المجموعات المتأثرة بفكر «تنظیم الدولة» أنّها «باركت» عملیة التفجیر في مطار كابل، بالترافق مع إسقاطها على الواقع اللبناني وضرورة التحرّك في إطار استراتیجیة جدیدة، وهنا یدخل دور الممانعة في التسهیل والتغطیة لما یجري تحضیره، كما سبق أن ساعد النظام السوري في إنشاء تنظیم «فتح الإسلام» الذي وضع الأمین العام لـ«حزب لله» حسن نصرلله الخطّ الأحمر أمام الجیش لمنعه من اقتحام مخیم نهر البارد الذي احتله التنظیم في تشرین الثاني عام 2006.
هنا تعود فكرة الاستثمار الممانع في التنظیمات السنیة المتطرفة، وإذ تبرز المخاوف من إحیاء خلایا متطرفة، یحضر السؤال الدائم: كیف یمكن لهذه المجموعات أن تتشكّل وأن تتسلّح وأن تتحرّك من دون انكشافها أو القبض علیها. وفي استقراء لطبیعة التحولات المقبلة، یبقى ثابت واحد، وهو سعي المحور الإیراني السوري على تقدیم الخدمات اللوجستیة والأمنیة للمجموعات المخترقة، لإدراك هذا المحور أنّه لا یستطیع استهداف المناطق السنیة، وطرابلس تحدیداً، إلاّ عن طریق إنبات خلایا الإرهاب، والفرصة الأفضل هي في ظل سریان الفوضى الناتجة عن تفاقم الأزمات المعیشیة والفلتان الحاصل على المستویین الاجتماعي والأمني.
شهدت السنتان الماضیتان محاولات فاشلة لإحیاء خلایا التنظیم كانت بصمات الممانعة فیها واضحة بالنظر إلى أنّ الحدود اللبنانیة السوریة تقع بشكل صارم تحت سیطرة النظام السوري و»حزب لله»، وجاء الاستثمار في عملیاتها «نموذجیاً»: استهداف قضاء الكورة المسیحي من «مسلحین إرهابیین سنة».
في ظلّ الانهیار الواسع الذي یعانیه لبنان، لم یعد ینقصه سوى استحضار الإرهاب لتكتمل دائرة الكوارث النازلة بالبلد، وهذا عنصر یجب أخذه بعین الاعتبار، في ظل ما تعانیه القوى الأمنیة من ضائقة شاملة، وهذا الأمر یجب أن یأخذ مكان الصدارة في مقاربة العلاقة بالجیش اللبناني وكیفیة دعمه لمنع حصول أي فراغ أمني یسمح بتسلّل الإرهاب المختلط، الذي یمتزج فیه العنصر الإیراني العامل على تفتیت الدولة وضرب الكیان، والعنصر الداعشي الساعي إلى تمزیق النسیج الوطني وإثارة الفتن الطائفیة.
وصلت استراتیجیة «الاستقطاب المقلوب» التي أقرتها قیادة «تنظیم الدولة» إلى لبنان، حیث یعتبر الأمنیون في التقییمات الأولیة أنّ ارتیاد المساجد أو التزام مظاهر التدیّن عموماً، هو المعیار للاشتباه بالانتماء إلى التنظیمات المتطرفة، وهذا تقییم یحتاج إلى مراجعة في ضوء التطویر الحاصل في سلوك وأسالیب الاستقطاب والتجنید لدى هذه الجماعات، التي تجاوزت الشكلیات لتصل إلى استقطاب الأشخاص الغارقین في الآفات الاجتماعیة، والبعیدین عن معیاییر التتبع الأمني المعتادة.
من المهم الالتفات إلى أنّ اعتماد آلیات «الاستقطاب المقلوب» من قبل «تنظیم الدولة» سیجعل اكتشاف الخلایا الخاملة أو البطیئة الحركة أصعب بكثیر، كما أنّ من شأن ذلك أن یختلط أصحاب الفكر المتطرف من «الزعران» المجنّدین لصالح التنظیم، بالمجموعات المسلحة أو شبه المسلحة التي تحظى بغطاء من الأحزاب أو النواب في المناطق السنیة، وهذا سیؤدي إلى خلطة شدیدة الخطورة، یختلط فیها الحابل بالنابل، ولا یمكن توقع تداعیات مفاعیلها الأمنیة والاجتماعیة والسیاسیة.
یمكن إجمال استراتیجیة تنظیم الدولة في لبنان بالآتي:
– تنفیذ عملیات تُحدث أكبر قدر ممكن من التفاعل والأصداء المحلیة والخارجیة.
– ضرب كلّ ما یمثّل التماسك الوطني والاجتماعي وإثارة النعرات الطائفیة، من خلال استهداف المقدسات الدینیة، وخاصة الكنائس والمدارس المسیحیة في المناطق السنیة، والتوسع لاستهداف المناطق المسیحیة برمزیتها الدینیة والسیاسیة.
– السعي للسیطرة على المعاقل السنیة في الشمال، مثل بلدة ببنین في عكار، التي تتمتع بواجهة بحریة وبعمق سني، وتعاني اضطرابات أمنیة أسفرت عن ظهور مجموعات مدعومة من «حزب لله» في إطار معارك الثأر المشتعلة بین عائلاتها.
لكن یبقى الهدف الأهم هو السیطرة على مدینة طرابلس باعتبارها المعقل السني الأخیر الصامد على شاطئ البحر الأبیض المتوسط وتحویلها إلى ساحة معركة واسعة وشاملة تنتهي یتحویلها إلى «موصل لبنان»، وهنا تبرز الأجندة المشتركة بین «تنظیم الدولة» والمحور، فلا یخفى على أحد غیظ أطراف هذا المحور مما أنجزته طرابلس خلال ثورة الأرز وانحیازها إلى خط المواجهة مع قوى ١٤ آذار بعد اغتیال الرئیس رفیق الحریري، وتحوّلها إلى «عروس الثورة» بعد ١٧ تشرین الأول ٢٠١٩ ، وبالطبع لیست المرة الأولى التي یجري فیها استهداف المدینة من خلال زرع الخلایا الإرهابیة فیها، فهناك محطات متتابعة ومعروفة منذ أحداث الضنیة مروراً بتنظیم وخلایا «فتح الإسلام» ولیس انتهاءاً بالأحداث التي تلت المواجهات في عبرا وفرار الشیخ أحمد الأسیر ومواجهات بحنین.
یقضي مشروع التنظیم المتجدِّد في لبنان، والمستند إلى تسهیلات الظهیر الإقلیمي الفاعل، بالاستیلاء على مرافق طرابلس، والسیطرة على أحیائها، ویستهدف بشكل خاص الكنائس والمدارس المسیحیة، وتحویلها إلى ثكنات لها وخوض المعارك منها مع الجیش، لإحداث إساءة تاریخیة ووصمة سوداء لمدینة العیش الوطني، التي یفاخر أبناؤها أنّه في ذروة الحرب الأهلیة بقیت كنائس المدینة مصانة ومحفوظة ولم تتعرض لاعتداءات تُذكر.
هذه قراءة استشرافیة استندت إلى معلومات وتحلیلات ومتابعات، غایتها إبقاء العین مفتوحة ویقظة تجاه ما یجري حولنا من تحوّلات، بینما نغرق في البحث عن لقمة عیشنا وسط الانهیار والانكسارات المتتالیة في الدولة والمجتمع الذي سبق أن لفظ الظواهر الشاذة، وطرد كلّ الغلاة وحافظ على وسطیته واعتداله، رغم اجتماع الأهوال علیه من كلّ حدبٍ وصوب.
وفي خلاصتها لا بدّ من التركیز، على أنّ الأولویة تبقى دعم الجیش اللبناني لیصمد في وجه عملیات الإنهاك الاقتصادي التي یتعرض لها، ولیتمكن من الحفاظ على التوازن النسبي في حضور الدولة في وجه الدویلة وسلاحها غیر الشرعي، على قاعدة أن الاستقرار هو السلاح الأمضى لصمود الكیان، وتعزیز التوعیة الدینیة والوطنیة لوأد أي محاولة لتولید هذا الفكر المنحرف في بیئتنا الإسلامیة.