Site icon IMLebanon

«داعش» مرشّح لملء فراغ اميركا في سورية!

      

زار المنطقة قبل أسبوعين وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو بهدف تصحيح الخطأ الذي ارتكبه الرئيس دونالد ترامب بإعلانه سحب القوات الاميركية من سورية.

 

 

وكانت استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس بمثابة اعتراض علني أطلقه الوزير بإسم القيادة العليا التي تجاهلها الرئيس. لذلك اعتُبِرت عملية الترميم التي كلف وزير خارجيته بضرورة تنفيذها معالجة سريعة حرصاً على استمرار الدور الاميركي في سورية.

 

وكما باشر الرئيس السابق باراك اوباما إطلالته على العالم العربي والإسلامي عبر جامعة القاهرة منتصف 2009، هكذا فعل بومبيو الذي قلد تلك الإطلالة وإنما من فوق منبر الجامعة الاميركية في القاهرة.

 

ومن أجل إرضاء رئيسه في البيت الأبيض، كان لا بد للوزير بومبيو من انتقاد السياسة الخارجية التي مارسها الرئيس السابق باراك اوباما حيال سورية. وذكّر بالتراجع المفاجئ الذي اتخذه اوباما عقب استخدام بشار الأسد الأسلحة الكيماوية المحرّمة ضد معارضيه. كذلك لمّح الى فشل كل التعهدات التي رددها اوباما بحضور الرئيس السابق حسني مبارك وشيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي. وجاء في مقدم تلك التعهدات حرصه على جعل القضية الفلسطينية بين أولويات القضايا التي سيطرحها مع الزعماء العرب. وخصّ في كلمته مدينة القدس التي وصفها بأنها مدينة التعايش بين أبناء ابراهيم، مؤكداً العمل الدؤوب لتحقيق «مبادرة السلام العربية.»

 

هذه المبادرة طرحها العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية التي عقدت في بيروت. وكانت تتلخص بالدعوة الى انسحاب اسرائيلي شامل من الأراضي المحتلة وتطبيق قرارات الأمم التحدة، في مقابل التطبيع الشامل بين العرب واسرائيل.

 

وخصّ بومبيو في اتهاماته القاسية الرئيس الديموقراطي السابق لأسباب أخرى تتعلق بالاتفاق النووي المبرم بين ايران من جهة والدول الخمس الكبرى والمانيا من جهة أخرى سنة 2015. وقال إن الرئيس ترامب ينتظر الآثار السلبية التي أحدثها قراره بإلغاء ذلك الاتفاق.

 

وفي نهاية جولته لم يحسم بومبيو مسألة المدة التي يمكن أن تبقي اميركا قواتها في سورية. وإنما ربط كل ذلك بقدرة الدول الخليجية على صدّ الزحف الايراني، وعلى نتائج الخلافات المحتدمة بين الأتراك والأكراد فوق الأراضي السورية.

 

من جهة أخرى، أعلن جون بولتون مستشار الأمن القومي أن انسحاب القوة الاميركية نهائياً من سورية مشروط بتعهد الرئيس رجب طيب اردوغان عدم الاعتداء على «حلفائنا الأكراد.» وكانت الادارة الاميركية تتطلع الى استرضاء حليفين مهمين لتحقيق أهدافها: تركيا، العضو في الحلف الأطلسي، وكل ما يمثله الجدار الواقي من زحف لاجئي المنطقة الى اوروبا. إضافة الى أحزاب الأكراد الذين ساهموا تحت غطاء القوات الاميركية في حرب اقتلاع نظام «داعش» من العراق وسورية.

 

قادة الحزب الديموقراطي الاميركي تساءلوا في الكونغرس عمّا إذا كان ألفا جندي سيقلبون التوازنات ضد ايران وتركيا ونظام بشار الأسد، أم أن مساعدة روسيا على إضعاف النفوذ الايراني في سورية كانت وراء تلك الخطوة المرتجلة. وعليه يرى العسكريون الذين يمثلهم وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس، أن تركيا ستتقدم لملء الفراغ الذي سيحدث بانسحاب الاميركيين تساندها بالطبع الغالبية السنيّة الموزعة على مختلف المدن والقرى السورية. ومثل هذا الإنقلاب الداخلي سيفتح الباب أمام اندلاع حرب جديدة بين نظام الأسد والقوى الخارجية التي تؤيد من جهة نظام اردوغان المصرّ على احتلال شريط عرضه 30 كلم داخل سورية يعينه على إبعاد الميليشيات الكردية. ومن المؤكد أن تغيير مواقع القوى الخارجية المرابطة في سورية بغرض حماية النظام، ستجد نفسها غارقة في مستنقع حرب جديدة. ويتوقع المراقبون أن تكون حرب السنوات الثماني الماضية في سورية مجرد نزهة، إذا ما قيست أحداثها بما تحمله الأيام المقبلة.

 

وسط هذا الجو المتوتر، أعلن مستشار الأمن القومي بولتون أن قرار الانسحاب المفاجئ الذي تحدث عنه الرئيس ترامب مرتبط بتعهد أنقرة ألا تعادي الأكراد لأنهم حلفاء اميركا في الماضي والحاضر. وعلى الفور ردّ عليه الرئيس اردوغان بلهجة قاسية محذراً من استخدام أسلوب السياسة المشروطة، ومن معاملة تركيا كما تعامل واشنطن دول العالم الثالث.

 

وبدلاً من استعمال أسلوب مهدئ مع اردوغان، سارع ترامب الى تهديد الرئيس التركي بشنّ حرب اقتصادية شبيهة بحربه على ايران، وقد جاءت هذه المقارنة للتدليل على قناعة الرئيس الاميركي بأن حركة التغيير في ايران لا تأتي إلا من الداخل، تماماً مثلما وصفها أثناء حكم الشاه مستشار الأمن القومي آنذاك زبغنيو بريجينسكي. لذلك لجأ ترامب الى أسلوب الحصار الاقتصادي على أمل زعزعة أسس النظام الديني الذي يتعب الغرب في كل مكان تقريباً.

 

ويستمد الحزب الاميركي الجمهوري هذه النظرية من مهندس متاعب العالم وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر. وأفضل مثل على تطبيق نظرية إرساء الاستقرار عن طريق زعزعته كان في انقلاب تشيلي الذي نفذه الدكتاتور الجنرال اوغستو بينوشيه ضد المنتخب بالغالبية سلفادور الليندي.

 

والملفت أن المعاملة السيئة التي قابلت بها واشنطن خدمات القوات الكردية (البيشمركة)، لم تكن في حساب رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني. ذلك أنه أثناء إعلان الأخير نتائج الاستفتاء للمطالبة باستقلال الإقليم عن العراق، تصدت له واشنطن بعنف وانضمت الى قائمة الدول المعارضة. والسبب الذي تذرعت به الولايات المتحدة في حينه، كان يتمثل في مخاوف عدة دول اوروبية أربكت وحدتها حركات انفصالية تدعو الى الاستقلال عن الدولة الأم في مناطق وأقاليم عدة بينها: كتالونيا والباسك (اسبانيا)، واسكتلندا (المملكة المتحدة)، واقليما لومبارديا وفينيتو (شمال ايطاليا)، واقليم الفلاندرز (بلجيكا)، وجزيرة كورسيكا (فرنسا)…

 

لهذا السبب تذرعت واشنطن بالقلق الاوروبي من ولادة «دويلة» كردية مستقلة متاخمة لتركيا وايران وسورية والعراق «المنقوص.»

 

خلال مرحلة بالغة الخطورة أثار قرار الإنسحاب المفاجئ من سورية على لسان الرئيس ترامب، سلسلة من الأسئلة المحيرة طرحتها عملية خروج وزير الدفاع جيمس ماتيس من الإدارة. وكان من المنطقي أن تثار مثل هذه الأسئلة، خصوصاً أن ماتيس كان أعلن قبل مدة أن الولايات المتحدة لن تسحب قواتها العسكرية من سورية. وبرر ذلك بالقول: «لقد تعلمنا درساً من العراق، لأن الانسحاب المبكر قبل وجود حكومة شرعية ومستقرة قد يدفع البلاد الى الفوضى واللاإستقرار، الأمر الذي يمكـِّن جماعات أصولية متطرفة من استغلال الوضع لبناء موطئ قدم، تماماً مثلما حصل سنة 2013 عندما نجح «داعش» في استغلال انسحاب القوات الاميركية من العراق لإعلان خلافته من الموصل.

 

وجّه «معهد هوفر» في جامعة ستانفورد الاميركية سؤالاً الى وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون يتعلق بسياسة الولايات المتحدة حيال سورية. واعترف الوزير، بعد هزيمة «داعش»، بأن المطلوب من بلاده العمل على إزالة كل تهديد محتمل قد تمثله كل من «داعش» و»القاعدة» على الأرض الاميركية. ونبّه الوزير السابق الى ظهور هذين التنظيمين الإرهابيين تحت مسميات أخرى.

 

واختار لعملية الحل الصحيح القيام بخطوات سياسية بقيادة الأمم المتحدة حسب قرار مجلس الأمن الرقم 2254 بحيث يؤدي الى سورية موحدة، مستقرة ومستقلة تحت قيادة جديدة تخلف بشار الأسد.

 

ودعا تيلرسون يومها الى ضرورة إقصاء نفوذ ايران عن سورية، ومنعها من تشكيل قوس الشمال الذي يربط سورية بالعراق ولبنان. ومثل هذا التغيير يمكن أن يخلق في رأيه الظروف المناسبة من أجل عودة اللاجئين والنازحين في شكل طوعي الى سورية الموحدة.

 

وعندما سئل عن دور القواعد الروسية في الحل المقترح، قال إن الدور الروسي في سورية دور موقت ينتهي بانتهاء مهمته العسكرية. بينما تحاول ايران أن يكون وجودها الدائم جزءاً من حل المشاكل العالقة في لبنان والعراق واليمن وغزة.

 

يوم الأربعاء الماضي إثر إعلان الرئيس دونالد ترامب عن سحب قواته من سورية، لأن مهمتها قد انتهت بالقضاء على تنظيم «داعش»… فاجأه «التنظيم» بتفجير في أحد مطاعم منبج قضى على أربعة جنود اميركيين من أصل 19، مع إعلان يؤكد استمرار وجوده في سورية والعراق وعدة أماكن أخرى.

 

وتباينت وجهات النظر داخل الولايات المتحدة بالنسبة الى الخيارات المطروحة بعد هذا التحدي السافر: هل يعود ترامب عن قرار الانسحاب بهدف إثبات موقف يحتاج الى مراجعة… أم أنه يسقط من حسابه كل اهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، مع المحافظة على أمن اسرائيل فقط؟!

 

وكل ما فعله «داعش» من وراء حضوره الدموي هو التذكير بأنه أعاد اندماجه مع «القاعدة»، وأن التنظيمين يعيدان حالياً تجميع صفوفهما في سورية والعراق استعداداً لشن حرب استنزاف مرهقة قد لا يسلم لبنان من تداعياتها…

 

* كاتب وصحافي لبناني