ما من أثر لحملة «النظام من الإيمان» التي انطلقت عام 2015 في الضاحية الجنوبية لقمع المخالفات. الـ«إكسبرسات» تجتاح المنطقة ولا تكاد تترك رصيفاً لم تقفله، في استباحة تامة للملك العام بين الاعتداءات على الأملاك البحرية والنهرية
أكثر من 40 «إكسبرساً» في شارع السيد هادي نصرالله، الأكثر حيويةً في الضاحية الجنوبية، والذي لا يزيد طوله على خمسة كيلومترات. غالبيتها تحتل الأرصفة، وبعضها يقفلها. في شارع الجاموس، الموازي، المخالفات أكثر وضوحاً. هناك، «يعتدي أصحاب كيوسكات الإكسبرس على طول خط السكّة الحديد، وينشرون طاولات وكراسيَ، ما يضيّق الطريق على السّيارات ويؤدّي إلى زحمات سير خانقة صباحاً، يزيد من حدّتها وجود 4 مدارس كبيرة على الخط نفسه، خصوصاً مع توقف كثير من السّائقين وسط الطريق تماماً لشراء «فنجان قهوة».
لم يدم طويلاً أثر حملة «النظام من الإيمان» التي أطلقتها جمعية «قيم» التابعة لحزب الله في الضاحية الجنوبية عام 2015 لـ«قمع التعديات على الأملاك العامة». الأزمة الاقتصادية، مع تراخي الدولة وتلاشي سلطتها، والإجراءات الأمنية التي أعقبت موجة التفجيرات وما رافقها من إقفالٍ لطرقات وتضييق لأخرى، أعادت إنتاج معظم مظاهر التعدّيات على الأملاك العامة.
على غفلة من الدولة والقانون تجتاح «إكسبرسات القهوة» والأكشاك المصاحبة لها أرصفة معظم مناطق الضاحية الجنوبية. ويصعب أن يجد المشاة طريقاً، أو رصيفاً، لم تحوّله هذه الأعمال من ملك عام إلى خاص. «تبدأ القصة دوماً باحتلال مساحة صغيرة على الرّصيف، لا تلبث أن تتوسّع لتدخل معها الطاولات والكراسي، وتليها أعمال تثبيت وباطون تقفل الطرقات بشكل شبه تام»، يقول صاحب صيدلية متضرّرة من «إقفال الإكسبرس لموقف السّيارة القانوني أمامها».
«الأزمة تضرب كلّ شيء إلا الأكل والشرب لأن شريك المي ما بيخسر. لذلك كل 150 متراً في الضاحية تجد إكسبرساً لبيع القهوة» يقول إيهاب وهو صاحب أحد هذه الإكسبرسات. وعن احتلال الرصيف بكراسٍ، لا يجد في ذلك مخالفة، ويجيب: «بدنا نسترزق». أما المخالفون، برأي إيهاب، فـ«من يفتحون إكسبرسات ثابتة تحت الجسور ويستخدمون مساحات واسعة من الأرصفة مجاناً».
المخالفات تتعدّى الشوارع العريضة إلى الأحياء الصغيرة، وإلى كل «فضلة» عقار أو قطعة أرض شاغرة. في منطقة الكفاءات، «شغل أحدهم مساحة صغيرة من قطعة أرض وضع فيها آلة لصنع القهوة. لكنه ما لبث أن بدأ بالتوسع إلى بناء غرفة محميّةٍ بحكم أمر الانتماء العشائري، أو صورة السّياسي المرفوعة على بابها، فلم يعد بالإمكان إزالتها أو التعامل معها على أنّها مخالفة للقانون»، بحسب أحد سكان المنطقة.
مصادر الحماية
يُجمِع عدد من أهالي الضاحية على أن «طبقات الحماية فوق رؤوس أصحاب هذه الأكشاك متعدّدة، وتختلف بحسب المنطقة والقوّة المسيطرة، وتتنوع بين العشائرية والحزبية». في منطقة الغبيري تحوّلت بعض الأرصفة الداخلية إلى محالّ مقفلة، وفي الكفاءات يؤكّد صاحب أحد أكشاك بيع القهوة علناً رفضه الإخلاء من عقار خاص «ولو استحصل صاحب الملك على أمر قضائي».
يؤكّد ممثل بلدية برج البراجنة في اتحاد بلديات الضاحية زهير جلول «عدم تغطية البلدية لأحد ورفضها إعطاء رخص إشغال أملاك عامة لأيّ مخالف، أو حتى طالب للرخصة»، عازياً ذلك إلى «تجنّب البلديات تحوّل هذه الرخص في ذهن طالبيها إلى ملك دائم لا يمكن الخلاص منه». لكنه يقرّ بـ«أثر الأزمة الاقتصادية على زيادة حجم التعدّيات، ومحاولة إزالتها بشكل كامل تعني الاصطدام بواقع اجتماعي مأزوم، وهذا ما لا تستطيع البلديّة تحمّله. الشخص الذي يسترزق من البسطات يعاني مادياً، ولا حلّ أمامه سواها».
أمّا الحل، فـ«بتشذيب المخالفات قدر الإمكان، والتخفيف من أثرها السّلبي. البلديّة اليوم في حالة كرّ وفرّ مع المخالفين، وتتعامل مع الموضوع بحكمة، ولو الدولة أمّنت بديلاً حقيقياً لكان أمكن التدخل ساعتها بشكل قاسٍ جداً ». ويضيف: «نزيل المخالفات كلّ فترة، وعندما نرى أنّها تراكمت نعود إلى الحملات».
تشغيل الإكسبرس
لا يمكن احتساب الرّبح الصافي الشّهري من تشغيل آلة صنع القهوة الخاصة من دون معرفة حجم المبيع الكلّي شهرياً، فـ«أرباح الفنجان الواحد لا تزيد على 5 آلاف ليرة في حال بيعه بـ30 ألفاً»، وفقاً لصاحب أحد المقاهي. أمّا تشغيل آلة صنع القهوة، فيكلّف إمّا «8 جرّات غاز شهرياً للتسخين، أو ما يقارب الـ 40 مليون ليرة ثمناً للكهرباء، ويضاف إليها ثمن 20 ليتراً من المياه يومياً، والفناجين». بالتالي على صاحب القهوة بيع 100 فنجان يومياً أقلّه لدفع التكاليف التشغيلية. ولزيادة الأرباح، يقوم أصحاب المحال بتنويع المنتجات التي يقدمونها.
بالتالي، لا يعني انتشار الإكسبرسات أنّ كلفة تشغيل هذه الأعمال بسيطة، إذ «يبلغ ثمن آلة صنع القهوة الصينية المستعملة 600 دولار، أمّا الأوروبيّة، فيناهز سعرها الـ 2500 دولار» يقول علي شرارة أحد أصحاب محال استيراد وصيانة آلات صنع القهوة. سابقاً، كان أصحاب الأكشاك يستأجرون الآلات، بحسب شرارة، ولكنّ هذه العملية توقفت اليوم بسبب التكلفة العالية، والتي تصل إلى 150 دولاراً شهرياً، ما يعني دفع ثمن آلة كل 4 أشهر، بالتالي فهم مضطرون لامتلاك رأس مال يكفي لشرائها. كما أن بعض منتجي البن يقدّمون آلات لأصحاب المحال الشرعية مع إلزام أصحابها بشراء كميّة معيّنة من البن شهرياً.