دمشق وبيروت عاصمتان لمأساة واحدة، بالرغم من عنفية وبربرية الساحة السورية وعدمية واندثار الساحة اللبنانية.
في دمشق ومنها على امتداد المساحة السورية، يستأثر الرئيس فلاديمير بوتين ومن خلفه الرئيس بشار الأسد وحلفاؤهما من الميليشيات العراقية وقوات الحرس الثوري وحزب الله بتعميم نموذج التسوية/الإذعان. وقف لإطلاق النار وفتح ممرات آمنة لخروج مقاتلي المعارضة من حلب، وقبلها من حمص وبعض أحياء دمشق على قاعدة إفساح المجال للمدنيين للعيش بسلام. بعد أكثر من خمس سنوات من المعاناة وبالرغم من عدالة القضية في سوريا، وبالرغم من تهجير أكثر من نصف الشعب السوري وتشكيل أكثر من إئتلاف في كلّ من اسطنبول والقاهرة والرياض، وبالرغم من تشكيل أكثر من مجموعة دوليّة لدعم سوريا وبالرغم من المقررات التي صدرت عن مؤتمرات جنيف، يجدّ الشعب السوري نفسه أمام خيار واحد أوحد هو الرضوخ لشروط الإذعان الروسية وشطب أكثر من خمس سنوات من النضال السياسي والعسكري والقبول بمعادلة بسيطة، خروج المقاتلين دون قيد أو شرط تمهيداً لإفقادهم كلّ أوراق التفاوض وفرض الحلّ السياسي – العسكري عليهم وإعادة مأساتهم إلى ما هو أسوأ من المربع الأول. وزير الخارجية الأميركي جون كيري يحمّل المعارضة السورية مسؤولية التحالف مع فصائل متطرفة وعدم السير مع الولايات المتّحدة بجديّة في قتال الإرهاب، ويطلب منها المشاركة في حكومة واحدة مع بشار الأسد والسير بانتخابات رئاسية تحت رقابة دولية، متناسياً أنّ المعارضة السورية إنّما تشكّلت لتغيير النظام في سوريا وليس للتحالف مع الولايات المتّحدة ومتجاهلاً أنّ الإنتخابات فيما لو تمتّ بنزاهة وتحت الإشراف الدولي، فمن يُلزم النظام في سوريا باحترام نتائجها. الإستئثار بمستقبل سوريا إنّما تكتمل عناصره بإخراج القارة الأوروبية من دائرة التأثير في المنطقة العربية تحت وطأة القبول باستقبال مئات اللآلاف من الاجئين السوريين وتصاعد موجة الإرهاب وصعود اليمين المتطرّف وتحديداً في فرنسا وألمانيا وانشغال حكوماتها بالبحث عن وسائل لكبح التطرف والحفاظ على الإستقرار. الأزمة الأوروبية سببها الإستئثار الأميركي والروسي المطلق ورفض إقامة مناطق آمنة للاجئين في شمال سوريا.
في بيروت إستئثار من نوع آخر. فبالرغم من الخيبات المتلاحقة في انتخاب رئيس للجمهورية، صدّق اللبنانيون أو كادوا يصدّقون أنّ أزمة الشغور الرئاسي لامست بدايات الطريق نحو الحلّ، بعد الجهد الإستثنائي الذي بذله الرئيس سعد الحريري والزيارات المكوكية التي شملت كافة المعنيين بالملف الرئاسي. تهيأ للبعض أنّ السياسيين باتوا يتحسسون مدى التفكك الذي تعاني منه المؤسسات الدستورية مع إندفاعة الرئيس الحريري التي بدت قابلة لشتى أنواع الملاءمة مع أي مرشح قديم أو مستجدّ للخروج من حالة الفراغ. فشل الحراك السياسي للحريري أثبت أنّ المسألة تتجاوز بكثير مسألة تغيير «مرشح « لصالح مرشح آخر. بدا التزام حزب الله بالعماد ميشال عون دونه سلة من التقييدات أحرجت السلة الدكتور سمير جعجع وظهر التحالف العوني – القواتي غير ذي وزن في الملف الرئاسي وأنّه لا يتجاوز مصالحة قروية قد تحصل بين قريتين أو عائلتين ولا يمكن توظيفها في أي دور سياسي في معترك المصالح الإقليمية. أشعلت سلة الرئيس نبيه بري الإقليمية، ذات المضمون والنكهة المحليين، الخلافات وفجّرت التناقضات. ومع تساؤل البطريرك الراعي في قداس الأحد «كيف يقبل أي مرشح للرئاسة الأولى ذي كرامة وإدراك للمسؤولية أن يُعرى من مسؤولياته الدستورية بفرض سلة شروط عليه غير دستورية وأن يحكم وكأنّه آداة صمّاء برز بعدٌ آخر يطالُ مدى قدرة المرشح على الإحتفاظ بإحترام المسيحيين في حال القبول بالشروط.
أعادت السلة المسعى الرئاسي إلى خط الإنطلاق واستدارت البوصلة نحو القوى الإقليمية المستأثرة بالحلّ والربط لتؤكد على عدم جواز تخطي مصالحها. السلة المستّجدة أطاحت بكلّ ما قيل عن لبنانية الإستحقاق، فتفرّق اللاعبون نحو ساحات القرار. أطلق النائب وليد جنبلاط تغريدة دونكيشوتية وغادر إلى باريس كما غادر الرئيس سعد الحريري في رحلة روسية سعودية وغادرت الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتّحدة في لبنان إلى طهران بحثاً عن حلّ للإستحقاق الرئاسي. الإستئثار بقرار إنهاء الشغور الرئاسي شكّل إضافة إلى مجموعة من الإستئثارات ذات البُعد الإقليمي في ملفات وتسويات دستورية أخرى تحت مسميّات تمّ استنباطها وفقاً للحاجة، كالثلث المعطّل والثلث الضامن والميثاقية في جلسات الحكومة وإلزامية توقيع الوزراء على المراسيم كافة والتوقيع السيادي لوزير المالية. الأزمة الرئاسية تؤكّد مجدداً تلازمها مع مسار الحرب في سوريا ومعادلة المصالح الدوليّة في ساحاتها.
دمشق وبيروت رهينتان للمصالح الدوليّة والإقليمية، المأساة أنّ في كليّهما شعب يُذبح بالرغم من اختلاف النموذج.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات