لن يأتي “رئيس تهريبة” بعدما سقطت معابر التهريب مع سوريا
لا يمكن فصل لبنان عن المشهد السوري. كل انقلاب يحصل في دمشق يكون لبيروت حصة فيه، كأن تكون محلّاً لصناعته أو لتتحمّل نتائجه. كل انقلابات سوريا نُفِّذت بواسطة الجيش إلّا انقلاب 8 كانون الأول الذي أطاح بنظام بشار الأسد وبجيشه معاً. بانتظار أن يعاد بناء الدولة والجيش والمؤسسات والدستور الجديد ستبقى صورة سوريا الجديدة غامضة، وسيبقى لبنان منتظراً انقشاع هذا الغموض. لكن الانطباع الأول الذي يمكن استنتاجه، هو أنّ سوريا انتقلت من قوة دعم لـ”حزب الله” ومحور الممانعة وقوى 8 آذار، إلى قوة دعم لقوى 14 آذار التي عارضت نظام الأسد وانتظرت سقوطه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لم يكن “حزب الله” يتوقع سقوط نظام الأسد. فاجأته عملية خروجه المُذِلَّة عن طريق قاعدة حميميم الروسية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أنقذ النظام منذ تدخّله عسكرياً في أيلول 2015، لم يستطع في 8 كانون الأول إلّا تأمين هروب الأسد ومنحه حق “اللجوء الإنساني”. قبل يوم واحد كان أمين عام “الحزب” الشيخ نعيم قاسم يعلن أنّ حزبه لن يتخلّف عن دعم النظام، وأنّه سيقاتل دفاعاً عنه كما فعل منذ عام 2011. كانت قوى المعارضة الآتية من إدلب ومناطق أخرى خارجة عن سيطرة النظام قد سيطرت على حماة وحلب وبدأت تهدِّد حمص، عندما تسرّب أنّ “الحزب” أرسل نحو ثلاثة آلاف مقاتل للدفاع عن المدينة التي شهدت معارك قاسية بينه وبين قوى المعارضة. فسقوط حمص كان يعني قطع الطريق بين دمشق والساحل السوري ويهدّد مناطق سيطرة الحزب المباشرة في القصير والقلمون وصولاً إلى الحدود المتاخمة لبعلبك والهرمل ووادي خالد، وتقطع التواصل بين قوات “الحزب” في سوريا ولبنان.
من نكسة إلى نكسة
لم يكن “الحزب” قد ارتاح من اتفاق وقف النار مع إسرائيل في 27 تشرين الأول، حتى فاجأته التطورات في سوريا. خلال عشرة أيام كان يتلقى النكسة الكبيرة بانهيار النظام السوري وانهيار قواته التي كانت تتمركز هناك والتي أرسلها إلى حمص، وكان يواجه خطر محاصرتها. لم تسقط حمص فقط، بل دمشق أيضاً. وكان على “الحزب” أن ينسحب من كل سوريا ويعود إلى لبنان حيث يواجه استحقاق سحب سلاحه تطبيقاً لاتفاق وقف النار والقرار 1701 بكل مندرجاته ومن ضمنها القرار 1559 والقرار 1680 الذي يستوجب ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ومنع إرسال السلاح إلى “الحزب”، ونشر الجيش اللبناني عليها وإقفال كل المعابر غير الشرعية التي لم يعد لها أيّ نفع إلّا تأمين انتقال الفارين من سوريا الذين دفعوا ثمن تدخّل “الحزب” دعماً للأسد.
كانت هذه الدفعة الثالثة التي يتكبدها “الحزب” خلال عام واحد. تكبّد خسائر كبيرة نتيجة انخراطه في حرب المساندة منذ 8 تشرين الأول 2023 دعماً لحركة “حماس” في غزّة. ودفع ثمناً أغلى نتيجة الحرب المباشرة مع إسرائيل منذ تفجيرات أجهزة البايجر واغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله وقياداته الأخرى وسحق قواته بشكل كامل عند خط القرى والبلدات الحدودية، وتدمير معظم ترسانته العسكرية وسقوط نظرية توازن الردع وتهديد إسرائيل بالزوال. كان “الحزب” يراهن على إعادة تسلّحه من خلال الخط المفتوح مع إيران عبر سوريا، ولكن انهيار النظام السوري أقفل هذا الخط وأكمل محاصرة “الحزب” في لبنان، وأنهى حلم الهلال الشيعي، وأسّس لقيام نظام آخر نقيض له بأرجحية سنية معارضة لإيران و”الحزب” إن لم تكن معادية
عبء النظام السوري على “حزب الله”
طوال عهد الأسد منذ العام 1970 تدخل النظام السوري في لبنان. تحكّم باختيار رؤساء الجمهورية والحكومات والوزراء والاستحقاقات. كان حافظ الأسد يحكم لبنان من دمشق. وبعد العام 1990 بات يحكمه من عنجر أيضاً. أنهى عمل القوى المعارضة له واعتمد على قوى تابعة ومؤيدة له وكان الأساس فيها “حزب الله”. هذه القوى هي التي تجمّعت في ساحة رياض الصلح في 8 آذار 2005 لتقول شكراً للنظام السوري بقيادة بشار الأسد الذي كان اتخذ قرار سحب جيشه ومخابراته من لبنان.
منذ العام 2011 تحوّل هذا النظام في سوريا من قوة دعم لهذه القوى إلى عبء عليها. كان على “حزب الله” في شكل رئيسي، أن يستمرّ في حروبه اللبنانية وعمليات الاغتيال ووراثة دور الوصاية السورية بالقوة العسكرية لفرض واقع سياسي خاضع له بالكامل. وكان عليه أيضاً، أن يأخذ على عاتقه عملية منع سقوط نظام الأسد، ليس حبّاً بالأسد فقط بل خوفاً من التغيير في سوريا ومن قطع طريق طهران بيروت التي تمرّ في دمشق. نجح “الحزب” مع إيران وموسكو في منع سقوط الأسد. ولكن هذه القدرة تلاشت نتيجة استنزاف “الحزب” في حرب المساندة واستنزاف موسكو في حرب أوكرانيا وتلاشي مفاصل قوة جيش الأسد. سقطت الدعائم التي استند إليها فسقط النظام وسقطت معه استراتيجية “الحزب” وإيران وموسكو التي تنتظر أيضاً انتهاء عمل قواعدها البرية والجوية والبحرية في سوريا.
لمن تفتح طريق دمشق؟
صحيح أن المشهد السوري الجديد لم يكتمل بعد. ولكن في مقابل النكسة التي تعرّض لها “حزب الله” ومحور الممانعة، تظهر مؤشرات انقلاب في المقاييس من خلال انفتاح طريق دمشق أمام رموز وشخصيات كانت تمثل عصب قوى 14 آذار ورحّبت بانتصار قوى المعارضة والتغيير في سوريا، واحتفلت بانهيار النظام هناك. في هذا الإطار، يدخل موقف رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، والرئيس السابق للحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط الذي اتصل بـ”قائد” الثورة السورية أحمد الشرع ويستعدّ للقائه في دمشق، ويبرز أيضاً البيان الذي صدر عن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بالإضافة إلى قوى المعارضة الأخرى.
أقرّ “حزب الله” وإيران بهزيمتهما في دمشق. ربما لم تكن طهران تريد من بقاء نظام الأسد إلّا الحفاظ على طريق بيروت طهران. ومع إقفال هذا الممرّ، سيبدأ البحث عن وسائل أخرى كما قال الأمين العام لـ “الحزب” الشيخ نعيم قاسم. لكن، هل هذه الوسائل ستكون متوفرة وكيف؟ ربما هذا الكلام ليس إلا محاولة لتخفيف حدّة المصائب.
عندما عيّن الرئيس نبيه بري في 28 تشرين الثاني، بعد يوم واحد على إعلان اتفاق وقف النار، موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 9 كانون الثاني المقبل، لم يكن نظام بشار الأسد قد سقط بعد.
هذا السقوط يترك انعكاساته أيضاً على الاستحقاق الرئاسي، الذي لا يمكن أن يبقى خارج خريطة التغيير الذي تحصل في المنطقة، ولا يمكن أن يؤتى بأي “رئيس تهريبة” بعدما سقطت معابر التهريب غير الشرعي. انقلاب دمشق لا يمكن إلا أن ينعكس انقلاباً في لبنان على مرحلة سيطرة “حزب الله” على السلطة ومنع أي تغيير. والتغيير يبدأ من موقع رئاسة الجمهورية. سقطت معادلة فرض التعطيل والمرشح الوحيد الذي يخدم استراتيجية “الحزب” لتقوم محلها معادلة استعادة قرار الدولة وبسط سلطتها وتطبيق القرارات الدولية ومندرجات اتفاق وقف إطلاق النار.