IMLebanon

دمشق في ظلّ روسيا: شائعات عن القدرة المطلقة

ما الذي تغيَّر في الميدان السوري بعد نحو أسبوعين من القصف الجوّي الروسي، وذلك بمعدّل 30 غارة يومياً، مع ملاحظة أنّ كلّ غارة يُنفّذها سرب من تسع طائرات، تحمل كلّ مقاتلة منها خمسة صواريخ؟

الإجابة العسكرية التقليدية تفيد أنّه من السابق لأوانه تقديم إجابة عسكرية عن السؤال الآنف، ومع ذلك يُمكن إيراد مجموعة انطباعات مهمّة مستخلصة من الأجواء السائدة في الشارع السوري، وكلّها تُظهر أنّ الحرب الروسية العسكريّة على الإرهاب في سوريا، تتزامَن مع ما يمكن تسميته «حرب نفسية» هدفُها نقل معنويات المجتمع السوري وطرائق تفكيره من حقبة ما قبل تدخّل موسكو العسكري إلى حقبة أخرى، والواضح أنّ هناك جهداً استخباراتياً روسياً لإكسابها سمات مصطلح «العهد الجديد في الأزمة السورية».

ويقوم هذا الجهد على ممارسة نوعين من السلوك في الميدان العسكري وفي الشارع السوري، وكلاهما مهتمّ بإظهار أنّ التدخّل العسكري الروسي له مردودات حَسم سريعة، وذلك على المستويَين الميداني والنفسي الشعبي.

وتتمثّل أبرز المكاسب العسكرية، حسبما تعرضها مصادر سوريّة، بالآتي:

أوّلاً – شهد الميدان السوري خلال أسبوعين انقلاب التوازنات العسكرية فيه بشكل سريع. فقبل التدخّل الروسي كانت موازين القوى متعادلة بين النظام وحلفائه من جهة، وجبهة المعارضة المسلحة بمختلف أطيافها من جهة ثانية.

أمّا الآن فقد اختلَّ هذا التوازن لمصلحة النظام بشكل محسوس. وأبرز الأمثلة الملموسة على ذلك تتمثّل في تضعضع الحالة النفسية للمسلّحين، خصوصاً في الجبهة الجنوبية من سوريا، مع ملاحظة أنّ الوضع المعنوي لـ«جيش الفتح» والفصائل الأخرى في شمال سوريا، لا يزال يشهد تماسكاً غير قليل.

وتكشف المعلومات أنّه خلال الأيام القليلة الماضية ترَك المئات من مسلّحي «النصرة» المرابضين في مناطق الجبهة الجنوبية، أسلحتهم، وانسحبوا في اتّجاهين، الأوّل إلى داخل الأردن والقسم الثاني سَلّم نفسَه إلى الجيش السوري. ويلاحَظ أنّ هؤلاء المسلحين لم يقصدوا كعادتهم مناطقَ للمعارضة السورية قريبة من الجولان تحظى بغطاء مدفعي وجوّي إسرائيلي.

والتفسير الشائع لذلك هو أنّ إسرائيل بَعد التدخّل الروسي عدلت عن دورها السابق لجهة تقديم حماية بالنار لمسلّحي المعارضة الموجودين قرب حدودها، وذلك يعود إلى أنّ الاتصالات الروسية الإسرائيلية أثمرَت تفاهماً بين الطرفين، تتكفّل روسيا بموجبه بإبعاد أيّ حضور عسكري لـ«حزب الله» والحرس الثوري في تلك المنطقة المحاذية لحدود الجولان المحتل، في مقابل أن تتخلّى تل أبيب عن سياسة تقديم حماية لمسلّحين معارضين فيها.

– المتغيّر الثاني الملموس الذي أحدثه التدخّل الروسي في سوريا، هو الهدوء التامّ الذي سادَ على كلّ جبهات التماس مع العاصمة دمشق.

فقبَيل بدء التدخّل الروسي، كان هناك نشاط ملموس لكلّ فصائل المعارضة السورية في اتّجاهين: إنشاء توحيد عسكري لكلّ فصائل الجبهات اللصيقة بدمشق يُشبه صيغة «جيش الفتح» التي وحَّدت فصائل شمال سوريا.

وكانت أنجزت هذه الصيغة، وبدأت مع بدايات شهر آب الماضي عمليات ضغط من المعارضة على العاصمة من محاور عدّة، وذلك في وقتٍ واحد وبتنسيق عسكري لافت بينها: «جيش الإسلام» بدأ مناوشات ضغط على العاصمة انطلاقاً من محور حراستا – ضاحية الأسد، فيما المجموعات المسلحة في مخيّم اليرموك باشرَت هجمات في اتّجاه منطقة الزاهرة في دمشق؛ والأمر نفسه فعله مسلّحون انطلاقاً من منطقة وادي بردى.

والواقع أنّ مجمل هذه الهجمات توقّفت فجأةً بعد أيام قليلة من بدء التدخّل الروسي. ولَم يحدث ذلك اعتباطاً بل لأنّ مجمل هذه الفصائل انصاعَت لرسالة طيّرَتها إليهم موسكو تمثّلت في غارة جوّية روسيّة عنيفة ويتيمة استهدفت منطقة تقع في ضواحي بلدة الزبداني وضمن نطاق جرود القلمون.

وبعد هذه الغارة ساد صمتٌ على كلّ الجبهات المحيطة بالعاصمة ولم تُكرّر الطائرات الروسية أيّ إغارة جديدة على هذه الجبهة، بما يؤكّد التزام مسلّحي الجبهات اللصيقة بدمشق احترامَ قواعد اللعبة الروسية الجديدة في ما يتعلّق بأمن العاصمة.

ولكن يلاحظ أنّه لا تزال هناك مجموعات مسلّحة في الغوطتين الدمشقيتين تُصرّ على إعادة الوضع العسكري إلى سابق عهده قبَيل التدخّل الروسي، وهي تلجأ إلى قصف سفارة روسيا في العاصمة من وقت لآخر.

وهناك معلومات تفيد بأنّ روسيا ستمتنع عن الردّ تحت اعتبار أنّها حالات فردية، وأنذرَت الفصائل المعارضة الكبرى الموجودة على تخوم العاصمة بغلّ أيدي هذه المجموعات قبل أن تعتبر مجمل الهدنة غير المعلنة والسارية منذ الغارة الروسية على القلمون قد سقطت.

حرب شائعات

في موازاة ذلك، يَسود محافلَ العاصمة السورية السياسية والاجتماعية، موجة إشاعات تتحدّث عن ترتيبات جديدة سيُنفّذها النظام داخل دمشق، ويتمّ تقديمها بوصفها إحدى ثمار الحماية المطلقة التي باتت تحظى بها دمشق بفعل الدخول الروسي المباشر للميدان العسكري.

وأبرز هذه الشائعات اثنتان:

– الأولى تحدّثت عن وجود اتجاه رسمي لتفكيك كلّ الحواجز الأمنية والعسكرية التابعة للنظام المنتشرة في العاصمة واستبدالها بعناصر الأمن الداخلي القليلة التسلّح وذات السلوك المدني.

– والثانية تحدّثت عن قرب إعلان حلّ لجان الدفاع المدني، ودَمجها بالجيش السوري. ويضمر هذا الإجراء إنهاءَ الحالة العسكرية التي ساعد الإيرانيون في إنشائها وتُعتبر قوّة عسكرية موازية للجيش السوري. وخلال الفترة الماضية أصبح دورها أساسياً في كثير من المناطق الساخنة، وليست مجرّد ميليشيات ملحَقة بالجيش. وتكرَّس هذا الوضع خصوصاً، بعدما أصبح راتب الفرد فيها أعلى من راتب الجندي السوري، وبعدما أصبح نظام المياومة فيها يتّسع ليمكّنَ ضبّاطاً من الجيش بالالتحاق بها في إطار تنفيذ مهمّات محدّدة، ومن ثمّ يعودون بعد إتمامها لمواقعهم السابقة بالجيش.

وتشعّبت الإشاعة الآنفة لتتحدّث عن علاقة مزعومة بين حلّ لجان الدفاع الوطني وإنشاء فيلق رابع في الجيش السوري، ومؤدّاها أنّه يتم التخطيط لاستحداث منصب (رتبة) مشير في الجيش السوري على وزن ما هو قائم في مصر التي أعلنت تأييدَها للتدخّل الروسي في سوريا؛ وأنّ الرئيس بشّار الأسد سينال حصراً هذا اللقب، ولكنّ ذلك لن يحدث قبل استيفاء الموجبات التي تسمح باستحداث رتبة المشير، وأبرزُها جعلُ الجيش السوري يضمّ أربعة فيالق عسكرية، علماً أنّه يتشكّل الآن من ثلاثة فيالق فقط، ويوجد فيلق رابع لا يزال قيد البناء نتيجة نقص في العدد البشري. وفي المحصّلة تفيد هذه الإشاعة أنّ فكرة ضمّ لجان الدفاع الوطني للجيش يكمن وراءَها هدف استكمال إنشاء الفيلق الرابع وضمان موقع «المشير الأسد» داخل النظام بعد القضاء على الجماعات الإسلامية المسلّحة!

الميل السائد لدى نخَب العاصمة السورية هو أنّ هذه الإشاعات هي جزء من الجهد الاستخباراتي الروسي في سوريا الهادف إلى تحسين شروط تقبّل تدخّل روسيا داخل المناخ النفسي الشعبي الذي يعمل بين ظهرانيه.

صحيح أنّ الوجود الروسي العلني معدوم في العاصمة وأيضاً في حمص وحلب وبقيّة المدن التي يسيطر عليها النظام، لكن في المقابل يمكن مشاهدة الجنود والضبّاط الروس بكثافة في اللاذقية وطرطوس وبقيّة مناطق الساحل السوري. وتسود أقاويل أنّ القوات السورية أحضَرت معها إلى قواعدها العسكرية في مطار جبلة نحو 6 آلاف جندي من الوحدات الخاصة ليكونوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ عمليات برّية في مناطق حساسة، ويُعتقد أنّ حماية دمشق إحداها.

وعليه، فهناك ميل لاعتبار أنّ الإشاعات التي تنتشر بكثافة في العاصمة عن أنّ التدخّل الروسي يُحدث تغييرات إيجابية على مستوى قمع جبهات المسلّحين المحيطة بها، وسيُحدث قريباً تحسّناً لنوعية حياتها اليومية، قد تكون من صنيعة الاستخبارات الروسية بهدف تحسين صورة الجندي الروسي داخل العاصمة، وجعلِه مقبولاً من سكّانها في حال اضطرّ للمرابطة بداخلها.

على أنّ أسلوب بثّ الإشاعات التي تسيطر على الشارع السوري في هذه الآونة، لا يقتصر على «أخبار مدروسة» تُغذّي الروح المعنوية الشعبية لجهة تعميق إيمانه بأنّ التدخّل العسكري الروسي هو في مصلحة النظام وهو الطريق الأقصر لإنهاء الأزمة السورية؛ إذ هناك تسريبات مقصودة ومضمونُها يتعلّق بأخبار صحيحة عن وقائع تتعلق بالقدرة النارية الهائلة لسلاح الجو الروسي، ويتمّ إيرادها للتأكيد على أنّ حرب روسيا ضد الإرهاب في سوريا جدّية، وذلك على عكس حرب الحلف العسكري الأميركي.

ويتحدّث أبرز هذه الأخبار عن وقائع الغارة الأولى التي نفّذها الطيران الروسي في سوريا والتي استهدفَت تجَمّعاً لـ»جيش الفتح» في منطقة خان العسل، وأدّت إلى تدمير 28 بناءً و12 عربة مدرّعة و7 دبابات، فيما ارتفع عدد القتلى عن الثمانين مسلّحاً.

كما أنّ أكثر الأخبار تداوُلاً في الشارع السوري عن الوقائع الميدانية للغارات الروسية، تركّز على حقيقة أنّ نسبة كبيرة منها تستهدف خصوصاً قوات «جيش الفتح» في منطقة إدلب الذي تعود مرجعيته لأنقرة، ما يُوحي بأنّ هدف تحييد تركيا ميدانياً يشكّل أبرز توجّهات رؤية موسكو لدورها العسكري في سوريا.

لكنّ اللافت أنّ الرواية عن تركيز الغارات الروسية على هذه المنطقة و»جيش الفتح» فيها، تؤكّد أنّ «جيش الفتح» في المنطقة ذاتها وفي الوقت ذاته، يتلقّى تصعيداً لافتاً بالهجمات عليه من «داعش» انطلاقاً من المحور الغربي لحلب.

ويُظهر هذ المشهد أنّ الحرب الروسية في سوريا، بدأت تتكيّف سريعاً في بعض جوانبها مع المشهد التقليدي في الحرب السورية الذي امتازت بعض وقائعه الميدانية بأنّها لا تملك تفسيراً سياسياً أو عسكرياً منطقياً لها.

ويبقى الخبر الأبرز ضمن سياق اشتعال حرب بثِّ الإشاعات في الشارع السوري المواكب للعمليات العسكرية الروسية والمرَوّج لجدّيتها وقدرتها على الحسم سريعاً، تلك المعلومة التي يدور جدل حول كونها إشاعةً أم واقعة صحيحة، ومفادُها أنّ إحدى الغارات الروسية استهدفت مستودعاً كبيراً لـ»جيش الفتح» في إدلب ودمّرته بالكامل.

ولكن فحوى الخبر ليس هنا، بل بخلفيته التي تقول إنّ هذه الأسلحة كان سيطرَ عليها «جيش الفتح» عقب احتلاله أكبرَ مستودعات الجيش السوري في بلدة مهين شمال مدينة حماه، ونقلَها إلى مخزن إدلب. والذي حدث أنّ الاستخبارات الروسية طاردَت عملية نقل هذا السلاح من مهين إلى إدلب عبر تتبّع الشرائح الإلكترونية الخاصة به، ودمَّرته فور بدء عملياتها العسكرية في سوريا.

الأسئلة المثارة في الشارع السوري هي: لماذا لم تبلّغ الاستخبارات الروسيّة حينها الجيشَ السوري بمكان وجود السلاح المهمّ المسلوب من مهين؟

ولماذا إذاً أخفاه «جيش الفتح» ولم يزجّه في معارك سهل الغاب وشمال سوريا؟

الإجابة عن السؤال الأوّل تفيد: لأنّ الروس خافوا أن تُخطئ الطائرات السورية إصابة مخزن «جيش الفتح» في إدلب فينفضح سرّ وجود معلومات لدى النظام عنه، ما يُفوّت فرصة تدميره. أمّا الإجابة الثانية فتفيد أنّ «جيش الفتح» يُخبّئ هذا السلاح لمعركة كبيرة كان يعدّ لها بعد انتخابات التركية.

خلاصة القول إنّ الشارع السوري بعد أسبوعين من التدخّل الروسي في بلده، انتقل إلى مناخ آخر من النقاش وإلى نظرة أخرى للغد، وذلك بأسلوب يذكّر بالطرائق التي كانت تُدار فيها الساحات الساخنة أثناء أزمنة الحرب الباردة.