IMLebanon

أنا ميشو الراقص ولستُ راقصة

 

تعرّض للتنمّر والتهميش وتحدّى النظرة الجندرية

 

 

شاب راقص؟ لنقل أكثر. هو مبدع في الرقص الشرقي وما يتطلبه هذا الفن من ليونة عالية وحسّ بالموسيقى. هذا أمر غير مألوف في المجتمعات الشرقية المحافظة وحتى المدينية، لا يستطيع الناس “هضم” الفكرة بسهولة. من هنا كان مشوار ميشال شمّاس، إبن بلدة دوما الشمالية العريقة، شائكاً ومثيراً للإنتباه ومولّداً للنظرات المرتابة والرافضة والمستنكرة. شاب وشال على الخصر؟ يا لهول ما نرى!

 

“أنا لا أفتخر بأني رجل وأدرّب على الرقص فحسب، بل أنا فخور بلقبي ميشو الراقص…”. هكذا يعرّف مدرب الرقص ميشال شمّاس عن نفسه قبل أن ينتقد محاولات التهميش المستمرة لـ “هذا النوع الراقي من الفن”، بحسب تعبيره. يؤمن شماس أن الرقص في العالم العربي هو لغة تواصل، رافضاً ردود فعل المجتمع تجاه الرجال الراقصين والنظرة السيئة لهم، ليقرّر كسر القوالب المجتمعية التي تدين الراقص والصورة النمطية الجندرية.

 

في إحدى صالات النادي الرياضي حيث يدرّب شمّاس الرقص، تحضر مجموعة من السيدات ومعها شاب قرر أن ينضمّ إليها. يستعدّ الجميع بانتظار حضور مدرّبهم. اختار معظمهم هذا النوع من التمارين الرياضية “لانه أسرع في حرق الدهون”. أما عن تدرّبهم على يد رجل، فنلاحظ الترحيب بالفكرة من قبل الجميع. دقائق ويحضر “ميشو” على الموعد. يعلو التصفيق في الصالة، وهي طريقة يعتمدها المنتسبون كنوع من الترحيب به على طريقتهم الخاصة.

 

قبل بدء الصف، يشير ميشال الى بعض الملاحظات. يذكّر بالقواعد ويشدّد على ضرورة عدم المقاطعة في خلال التمارين. بعد مرور ساعة من التمايل على إيقاعات الأغاني الشرقية، يودّع ميشال الحاضرين ويتوجه الى مكان آخر لتدريب مجموعة جديدة.

 

الشغف الكبير

 

لميشال برنامج يومي مع مهنة اختارها وأحبّها منذ الطفولة. يتحدث شماس عن الرقص بشغف كبير، يدافع عنه بشراسة ولا يتقبل فكرة انتقاده. يشرح الاسباب الكامنة وراء اختياره هذه المهنة، واصفاً الرقص بأنه ” أهمّ وأرقى وأقدم نوع فن مرّت عليه حضارات عديدة. الرقص الشرقي إحساس، ومن المستحيل تأدية الرقصة بشكل صحيح من دون أن تتجسّد بشخصيتك”.

 

يؤكد شماس انه “مدرب رقص وليس راقصة يحيي الحفلات في المطاعم والملاهي الليلية. ويضيف “أنا زارع البهجة والفرح في قلوب الناس، وهمي الوحيد هو تقديم فن راقٍ غير مبتذل”.

 

بدأت هواية الرقص عنده في عمر الـ12 عاماً، وتحديداً على سطح المنزل في قريته “دوما”، مع أصدقائه المقربين الذين كانوا يدعمونه ويشجعونه. ونزولاً عند رغبة هؤلاء، توجه شمّاس الى مطعم القرية حيث قرّر الرقص إلى جانب الراقصة التي تؤدي وصلة في المطعم. وهي كانت السبب في دعمه معنوياً، “لم تصدّني بل حمّستني، فكان ردّ فعل الحاضرين أقوى محفّز لي”. ثابر على التأقلم مع اجواء الرقص الشرقي الذي لم يعد مجرّد هواية بل أصبح طريقاً للاحتراف. بدأ التمرين على كل أنواع الرقص تحت إشراف مدربين محترفين، فأتقن رقص الباليه كلاسيك الذي أعطاه التوازن ومنحه الليونة.

 

بعد فترة المراهقة، وتزامناً مع دخوله الجامعة، لم تتقبل عائلة شمّاس المهنة التي اختارها ابنها. قرّر التخصّص في مجال الهندسة لرغبة أهله في ذلك، وبقي يمارس الرقص الذي يحبه. وهنا بدأت الحكاية…

 

لم تكن بداية المشوار سهلة على شمّاس. تعرّض للمضايقات والهجوم من قبل أشخاص عديدين. كانت الفترة الاولى صعبة عليه، خصوصاً بسبب الضغوطات التي تعرّض لها والداه.

 

لميشال أخت تصغره سناً. لم تتقبل الفكرة في البداية، وكانت تخجل من تصرفاته. اضطر لأن يأخذ قراره الشخصي بالاستغناء عن اسم العائلة والميراث. لم يهن عليه ما واجهته عائلته من مشاكل. من جهتها، رفضت العائلة أيضاً التخلي عن ابنها الوحيد. رغم ذلك لم يكن اقناعها بالمهمة السهلة، بل تطلب مثابرة ووقتاً كبيراً حتى اقتنع الجميع أن “ما أقدّمه هو رقص فني غير مبتذل”، بحسب تعبيره.

 

تنمّر وسخرية

 

لم يغب التنمر عن حياة شمّاس منذ الطفولة. حين كان طفلاً، دعمه أترابه وشجعوه على الرقص، في حين رأى آخرون “أن ما يقوم به هو خارج عن المألوف”.

 

برأي شمّاس، “لا تكمن المشكلة في ما يفعله بل في المجتمعين اللبناني والعربي اللذين لا يتقبّلان فكرة أن يمارس الرجل مهنة الرقص”.

 

يشعر بحزن كبير “كيف يركزون في الغرب كثيراً على الرقص الشرقي، ولديهم القدرات التقنية التي نتمتع بها، ونحن مميزون بإحساسنا في الرقص الشرقي، الذي يخلق معنا بالفطرة”.

 

تعرّض شمّاس إلى الكثير من الانتقادات والسخرية بسبب طبيعة الفنّ الذي يقدّمه. قرّر الانعزال عن العالم الخارجي لفترة وشعر بإهانة الناس لموهبته.

 

يعتبر شمّاس أن المجتمع ينظر الى الرجل الراقص نظرة جندرية، ليصب جام غضبه على كل من يربط الرقص الشرقي عند الرجال بالمثلية الجنسية. “أنا لست مثليّاّ”، يقول شمّاس ليدعو الى عدم ربط الجندرة بمهنة معيّنة.

 

نُعِت بتعليقات وكلام جارح. لا يستطيع نسيان المواقف التي كان يتعرّض لها في بعض المناسبات حيث كانوا ينعتونه بـ “الراقصة”.

 

كان يصعب عليه أن يواجه التنمر وهو شخص مثقّف ومتعلّم. أثّرت كل هذه العوامل عليه سلبياً، ما دفعه الى استشارة طبيب نفسي والمتابعة معه لتخطي المشكلة.

 

مع مرور الوقت، بدأت العائلة تدعمه ورفضت تركه وحيداً. استجمع شماس قوّته وثقته بنفسه وبموهبته، ليعود شخصاً جديداً وينبع الأمل من تفاؤله. عاد ليعبّر عن شخصيته المختلفة من خلال الرقص الشرقي. عاد ليواجه كل من انتقده بتقديم صورة جميلة عن لوحات فنية متعددة.

 

“هذا انا”. قالها شماس وتحدى الجميع وبمن فيهم عائلته. فرضخوا للأمر الواقع واحترموا قرار “ميشو”.

 

لا يحبّذ شمّاس المقارنة بين أدائه وأداء الراقصات. ويوضح أنه “لا ينافسهن بل هو من يقوم بتدريبهن”. برأيه “لا يؤدي الرجل ايحاءات جنسية كما تفعل الراقصة، ومع هذا يجب أن تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة في مجال الرقص”. يقول شمّاس “وراء كل راقصة مدرب عظيم”، ويطالب بالمساواة بين الجنسين في هذا المجال، إذ يعتبر انه “كما يحق للمرأة مزاولة أي مهنة ترغبها، كذلك يحق للرجل”. علّمه الرقص التحدي والنجاح. هي المهنة التي أخرجته من عالمه المظلم حين عاش فترة من الكآبة واليأس.

 

وعن هذا المجال، يطالب شمّاس باسم “مدربي الرقص والراقصين” أن يُمنحوا الحق الكامل في مجتمعاتهم العربية بالاضافة الى إعطائهم الفرص لإبراز الصورة الفنية الجميلة”. كذلك، يتمنى “أن يصبح الرقص متاحاً بشكل طبيعي للرجال وألّا يكون مجرّد صورة نمطية جندرية”.

 

وللأشخاص الذين يعتبرون رقص الرجال من التابوهات المحظور العمل بها، رسالة واضحة وصريحة. “لا تحكموا على الأشخاص قبل التعرّف اليهم، لأن هناك مئات من الأشخاص المظلومين الذين يتعرّضون للتهميش والتنمر بسبب عدم ثقافة الناس في التعامل معهم”.

 

“يحق لكل شخص التصرف بحرية واختيار الطريق الذي يريده، وممنوع على المجتمع الاعتراض او التدخل به”، يقول شمّاس.

 

وبانتظار أن يكتمل حلم “ميشو” في وطنه الام لبنان ويكون نموذجاً مثالياً في عيون كل من يعرفه، وينقل المعرفة حول تاريخ هذا الرقص وتقنياته للآخرين. يسعى للوصول الى العالمية وأن يمتلك فرقة رقص يجول بها على الدول ويشارك في مهرجانات ثقافية، ليشهد التاريخ على انجازاته الفنية.

 

والأهم من كل ذلك، يرفض شمّاس أن يكون ضحية مجتمع، كما لا يريد تكريس هذه الوصمة عن الفئات المهمّشة في البلدان العربية.

 

لن يحطّمه التمييز بل يستمدّ قوة أدائه من تجربته الشخصية “لأن الحركات الراقصة هي وليدة الحياة، وليكن الرقص لكسر تابوه الجندرة”، بحسب تعبيره.

الراقصون الرجال تاريخياً

 

في التاريخ القديم، بدأ الرقص كتقليد للطبيعة يقوم به إنسان الكهف، ونجد أثراً لذلك في الرسوم والنقوش الأثرية. وكانت وظيفة الرقص آنذاك التهليل للطبيعة. وفي المعابد استخدم الكهنة الرقص لتقديس الآلهة، وكانوا يرقصون رجالاً ونساءً.

 

ويعود تاريخ فن الرقص في مصر إلى زمن الفراعنة بحسب بعض القراءات التي ترجح أنه كان طقساً دينياً أيضاً. وعلى رغم اقتحام الرقص بقية الفنون منذ عقود طويلة وحضوره بقوة، إلا أن النظرة الدونية ترافق الراقصين العرب المعاصرين في مجتمعاتهم وبيئاتهم. وفي مصر أيضاً، كان أهم مدربي ومصممي الرقص من الرجال، ومنهم مؤسس فرقة الفنون الشعبية محمود رضا وإبراهيم عاكف ومحمد جداوي وغيرهم ممن قاموا بتدريب أهم الراقصات: لوسي وفيفي ودينا.

 

أما في لبنان، فقد بدأت مسيرة الرجال في الرقص في ستينات القرن الماضي، ثم اتسعت تدريجياً ولكنها عادت وانحسرت بفعل الحرب الأهلية. واليوم، يبرز اسم ألكسندر بوليكيفيتش كأهم المدربين والراقصين اللبنانيين وكان قد قدّم عروضاً فنية متعددة وشارك في مهرجانات خاصة بالمحترفين. وبرزت أسماء اخرى في مجال الرقص الشرقي الخاص بالرجال نذكر منها: الراقص مهدي الملقب بـ»شاشو»، ومصباح.