ما يجري اليوم أخطر من الحلف الرباعي في 2005، لأنّ الأحزاب المسيحية التي يجري تجاوزها ليست في المنفى ولا في السجن. وهو أخطر من عملية الإقصاء التي جرت في 1992 لأنّ الشرق الأوسط لم يكن يومذاك قد دخل زمنَ الحروب التقسيمية. فإنّ كان ذوو الشأن يدركون هذه المخاطر فتلك مصيبة، وإن كانوا لا يدركونها فالمصيبة أعظم…
مَن يحاول إعادة عقارب الساعة إلى العام 1992؟
في تلك المرحلة جرى ما يأتي: العماد ميشال عون منفي في فرنسا، الدكتور سمير جعجع وُضِع في مأزق بين المشارَكة المنقوصة في السلطة والمقاطعة، وبدأ التخطيط لتغيير النهج «التاريخي» في حزب الكتائب. واضطُر البطريرك الماروني، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير إلى المقاطعة. وهكذا بدأت تنشأ الدولة في غياب هؤلاء القادة المسيحيين الذين كانوا جميعاً آنذاك خصوماً لسوريا.
هذه الدولة أدارت لبنان في مرحلة «الطائف السوري». ولكنها عملياً كانت المرحلة التي جرى فيها اغتيال الطائف. والرمزية الأكثر تعبيراً عن هذا الاغتيال كانت اغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوّض. وخلال هذه المرحلة التي امتدت حتى 2005، سقط تماماً المفهوم اللبناني الكلاسيكي للميثاقية.
وقد عمدت القوى المسلمة إلى الاستقواء بالوصيّ السوري أو مهادنته على الأقل وحافظت على مكاسبها الداخلية، وتقاسمت السيطرة على الدور المسيحي التقليدي عن طريق استرضاء السوريين ورشوتهم من رأس القمة إلى آخر عنصر يقيم حاجزاً على مفرق زاروب البيت!
وهكذا، جرى إقناع المسيحيين آنذاك بأنّ الخلل في التوازن ليس طائفياً، وأنّ قادة المسيحيين معزولون عن السلطة لا لأنهم مسيحيون، بل لأنهم معادون لسوريا. وفي الترجمة، قيل للمسيحيين:
ليس القادة السنّة والشيعة والدروز هم الذين يبتلعون المواقع المسيحية بل السوريون الذين لو لم يكونوا يسيطرون على البلد، لكان التوازن الطائفي في السلطة بألف خير. وعاش المسيحيون على هذه الخرافة حتى خروج السوريين الذي تحقَّق بتضحيات وجهود مسيحية في الدرجة الأولى.
في 2005، وفيما أصوات «ثوار الأرز» ما تزال تصدح في الساحة معلنة قيام «لبنان الحرّ»، قفز السنّة والشيعة والدروز إلى تحالف رباعي استبقوا فيه خروجَ جعجع من السجن، وعزلوا عون. وأيضاً… استعانوا بالمستقلّين والمسيحيين الذين يركبون قطاراتهم ودشّنوا المرحلة الجديدة، لا باستعادة التوازن بل بتكريس الوكالات التي منحهم إياها السوريون.
وفي الترجمة: عمد بعض هؤلاء إلى استخدام القوى المسيحية كتغطية لإخراج جيش الأسد، وبعد انتهاء هذه المهمة، استغنى عن خدماتها، ليعقد الصفقة مع حليفه المذهبي اللدود. وفي المعسكرَين السنّي والشيعي، جرى التصارع على اجتذاب المسيحيين ليكونوا «ثقّالة» مع هذا المحور ضدّ آخر. ولكن، لم ينظر أحدٌ إلى المسيحي كشريكٍ حقيقي.
وقد لا يدعو هذا الأمر إلى الاستغراب، لأنّ القوى السنّية والشيعية الناشئة في الفترة السورية ليست هي إياها القوى السنّية والشيعية التي كانت قائمة عندما عُقدت التسوية التقليدية وجرى إنشاء لبنان الكبير. ومن المؤكّد أنّ زعامات تاريخية كآل الصلح وكرامي وسلام (كزعامة وليس كرئيس حكومة) وحمادة والأسعد وسواها كانت أكثر تعمّقاً في فَهْمِ الميثاقية اللبنانية.
لقد بقي منطق الحلف الرباعي هو السائد حتى اليوم. والقوى المسيحية المحسوبة على هذا المحور المذهبي أو ذاك لطالما أرادت أن تصدِّق بأنّ شركاءها ميثاقيون فعلاً، ولطالما جرى التهرُّب من الأصوات المسيحية الجريئة، والتي لا غايات لها ولا مصالح، عندما تقول الأشياء كما هي.
ولطالما اعتمدت القوى المسيحية سياسة «الطبطبة» على حلفائها منعاً للزعل أو حفاظاً على المصالح، وهي وفيرة أحياناً. وثمّة تنازلات لا تُحصى قدَّمتها كلٌّ من القوى المسيحية لحلفائها، منذ 2005، كانت السبب في «استيطاء الحيط المسيحي» تدريجاً.
وكثير من المسيحيين ينظر إلى قادته اليوم، ويقول: ليتهم لم يناموا بين القبور… ولم يشاهدوا «الأحلام الوِحْشِة». والوقحون يقولون عن بعضهم: ليتكِ لم تزْني ولم تتصدَّقي!
واليوم، جاءت ورقة «إعلان النيّات» لتعبِّر عن هامش من الشعور العوني- «القواتي» المشترَك بالتهميش. وهذه الورقة تشخِّص الداء لكنها لم تصل بعد إلى وصف الدواء. وستكون أوّل جرعة من الدواء هي التفاهم المسيحي الجامع على رئيس للجمهورية يجري اختياره مسيحياً وانتخابه فوراً وبلا اعتراض من أحد.
فرئيس الجمهورية يمتلك على الأقل صلاحية واحدة لا غبار عليها هي: توقيع مرسوم تشكيل الحكومات. وهذه صلاحية ذات أهمية ميثاقية حاسمة إذا جرى استخدامها جدّياً، أيْ على الطريقة التي يستخدم فيها رئيسا المجلس والحكومة صلاحياتهما. وبعد انتخاب رئيس وتشكيل الحكومة، يمكن أن يتوقّف «النّق» المسيحي تلقائياً وتبدأ الحلول العملية.
لم يتعلّم القادة المسيحيون شيئاً من أخطاء الماضي. قالها البطريرك صفير ذات يوم عن إدراك ومعرفة وافية بهم. وقد يكون هؤلاء قد مرّوا يوماً على كرسي اعترافه وسمع منهم سرداً طويلاً للخطايا التي جرى الإعتراف بها علناً أو تلك التي لا يُباح بها أبداً… إلّا للتاريخ!
في أيّ حال، اللعب بالميثاقية في 2015، وفيما يغلي الشرق الأوسط بخرائطه وأنظمته وطوائفه ومذاهبه أخطر بكثير ممّا كان عليه في 1992 و2005. ومَن له ذاكرة فليحتفظ بها لأنه سيحتاج إليها ذات يوم ليشعر بحجم الخطأ الميثاقي، إذا جرى الإمعان فيه.