أطلق البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي دعوته لرئيس الجمهورية ميشال عون إلى «فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحر»، مطالباً «منظمة الأمم المتحدة بالعمل على إعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلان حياده»، وبدأت بعد إعلانه هذا تتوالى المواقف المؤيّدة والمتفاعلة، بما في ذلك زيارات القيادات والنواب والوزراء والنخب المتنوعة، إسلاميّة ومسيحية، للصرح البطريركي، بعد أن تمكن الكاردينال الراعي من إحداث الصدمة الكبيرة لإعادة تحريك الجمود السياسي المسيطر منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون.
أنتجت دعوة البطريرك الراعي إلى حياد لبنان تفاعلاً إيجابياً في الأوساط اللبنانية، لكنه اصطدم بصمت المرجعية الإسلامية في دار الفتوى وبهجومٍ عنيف من بعض المرجعيات الشيعية عبّر عنه رئيس المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان الذي شكّل البيان الصادر باسمه عودة إلى لغة التخوين والاستقواء واستخدام خطاب الإلغاء ورفض منطق الدولة.
ما سرّ الصمت السائد؟
أما السؤال الأكبر فهو لماذا يستمر مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في اعتماد الصمت تجاه ما يجري وحيال مبادرة البطريرك الراعي، سواء بالسلب أو الإيجاب، أو حتى بتقديم طرحٍ آخر ربما يستجيب للتحديات التي يواجهها البلد، ويتلاقى في الهدف والنتيجة مع هدف البطريرك الراعي في استعادة الشرعية وتحريرها وإقامة الدولة وحماية لبنان.
لماذا لم يبادر سماحة المفتي دريان إلى إجراء مشاورات سياسية ودستورية حول طبيعة ما يحتاجه لبنان، سواء كان الحياد أو النأي بالنفس أو عدم الانحياز أو غيرها من الصيغ التي يمكن أن تُطرح في ملاقاة البطريرك الراعي لفتح حوار وطني يؤدّي إلى تبنّي رؤية موحّدة في هذا المسار التاريخي الهام.
كانت المفارقة غريبة أن يكون زوّار الصرح البطريركي المؤيّدون لطرح الحياد هم أنفسهم الذين يزورون دار الفتوى ويلتقون المفتي دريان ويصرّحون بأنّهم ناقشوا معه طرح الحياد وطلبوا منه الوصول إلى مقاربة مشتركة حوله في هذه المرحلة الصعبة، من دون أن يصدر عنه حتى الآن أي تعليق واضح في هذه القضية الهامّة.
عودة المسؤولية إلى الثنائية المسيحية السنَّية
من المؤسف أن يضع حزب الله طائفته في مواجهة نهضة لبنان وضدّ كلّ محاولات قيام الدولة، وهذا يعيد تحميل الثنائي السني – المسيحي مسؤولية تاريخية في تأمين المخارج من هذا المأزق الوجودي الذي يواجهه الكيان اللبناني، وبالتالي فإن الموقف المنتظر من سماحة مفتي الجمهورية والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى هو أن يبادر إلى تحويل اجتماعاته إلى خلية عمل مفتوحة تستعين بكل الخبرات التي يزخر بها أهل السنَّة والجماعة وهي قادرةٌ على تقديم المقاربة الصحيحة والمتكاملة مع الشركاء في الوطن.
مصارحة لا بدّ منها
المصارحة مع سماحة المفتي دريان تقتضي القول إنك لا يجب أن تنتظر موقف أهل السياسة في المبادرة، بل ينبغي إشراكهم في العمل، وقد زارك منهم من ناقش معك المستجدّات وشجّعك على التحرّك، لكنّ المزيد من الانتظار سيكون مميتاً والمبالغة في التروّي تكاد تفقدنا إمكانية مواكبة التطوّرات وأخشى أن نذهب للمشاركة في معركة الاستقلال الجديدة بينما غيرنا عائدٌ منها.
سقطت اليوم كلّ محاولات التوفيق والترقيع والمراهنة على «مفاجأة» يقوم بها «حزب الله» وحلفاؤه لإخراج أنفسهم وإخراج البلد من المأزق القاتل الذي يتخبّط فيه، وحانت ساعة المفاصلة بين الدولة والدويلة وبين السلاح الشرعي والسلاح غير الشرعي، وبين الفساد والإصلاح، وبين الازدهار والإفقار، وبين لبنان الرسالة ولبنان الطائفي والعنصري.
ليست هذه المقاربة دعوة للمواجهة العنيفة أو القطيعة، بل هي دعوة للحوار الصريح بعيداً عن ألاعيب شراء الوقت أو لَحْسِ التواقيع، كما حصل مع إعلان بعبدا، بل إنّه الوقت الذي يجب أن يجلس فيه اللبنانيون إلى الطاولة لطرح جميع هواجسهم وآرائهم وتصوّرتهم للمستقبل في إطار الحفاظ على الدستور، فالسلاح وحده لا يحمي والسياسة بالإكراه لا تنتج إلاّ الانحراف والخطايا والأحقاد، والكلمة السواء لا تأتي بالاستقواء، بل تأتي من التوازنات العميقة التي يتكوّن منها هذا الكيان المحكوم بالعيش المشترك، وكل خروجٍ عليه يؤدّي إلى كوارث ودماء.
الأدوار التاريخية للمرجعيات الدينية
لطالما كان للمرجعيات الدينية دورٌ بارز في المفاصل التاريخية التي عبرَها اللبنانيون عبر التاريخ، واليوم، وصلنا إلى مرحلة جديدة من المخاضات المفروضة علينا، وتقع على دار الفتوى مسوؤليّة كبرى في قيادة هذه المرحلة من خلال مشروعٍ إسلامي وطني متكامل، يقوم فيه أهل السياسة بدورهم، وتقوم المرجعيات الدينية بتحصين الحالة الوطنية وتقديم كلّ ما يلزم للوصول إلى إنقاذ لبنان والوصول إلى الدولة المدنية العادلة والقادرة على بسط سيادتها وفرض شرعيتها على كامل ترابها الوطني بلا شريكٍ ولا منازع.