في غياب الرئيس سعد الحريري وتياره «المستقبل» عن العمل السياسي أي مسؤولية تلقى على دار الفتوى من أجل ملء الفراغ الذي سيتركه هذا الهروب من الساحة وتركها مشاعاً في ظل مواجهة كبرى مفروضة على لبنان لناحية استعادة كيانه وحريته وسيادته وكرامته ودولته ومؤسساته؟ تلك المواجهة كان يفترض أن يكون الرئيس سعد الحريري منخرطاً بقوة فيها مع تياره ولكنه اختار أن يتنحى عن القيادة ولم يترك لغيره من الذين ينتمون إلى التيار أن يفعلوا باعتبار أنه حاول أن يلزمهم معنوياً بالتنحي أيضا وبعدم المواجهة حتى لو كان هذا التنحي يضعف الجبهة السيادية التي لم تقبل في مجاراته في ربط نزاعه وتساهله مع «حزب الله» والعهد العوني طوال الفترة التي أعقبت انتخاب الرئيس ميشال عون وحتى ثورة 17 تشرين واستقالته.
لم تستوعب شخصية إسلامية دينية لها حضورها الفاعل قرار الرئيس الحريري مع أنها كانت في أجواء ممهدة له ذلك أنها أيضا عايشت مرحلة ما بعد 17 تشرين وبقاء الرئيس الحريري متشبثا بالسلطة وبالعودة إلى رئاسة مجلس الوزراء وكيف كان له دور في إجهاض محاولات تكليف شخصيات غيره اضطرت إلى الإعتذار وكيف أنه عاد ليفرض نفسه رئيساً مكلفاً بعدما اعتبر أنه مرشح طبيعي لهذا الموقع قبل أن يضطر لاحقاً هو نفسه للخروج من التكليف بأضرار كبيرة انعكست على نفسيته وشارعه وقيادته. فبين اعتذاره عن تشكيل الحكومة واعتذاره عن العمل السياسي مسافة أربعة أشهر فماذا تغير حتى يحصل عنده هذا الإنقلاب؟
الشخصية الدينية الإسلامية وصفت مشهدية انسحاب الرئيس سعد الحريري من العمل السياسي مع تيار المستقبل بأنها كانت تراجيدية بكل ما للكلمة من معنى. فالرجل بلغ حداً من الحزن والقرف والتعب لم يعد بإمكانه معه أن يستمر، فاختار الخروج بهذه الطريقة.
لا توافق هذه الشخصية الرئيس الحريري على هذا الخيار ولكنها تعتبر أنه خياره في النهاية وهو كان منسجما مع نفسه فيه. تسنى لهذه الشخصية أن تلتقي الرئيس الحريري خلال الساعات القليلة التي أمضاها في بيروت ولكنها لم تقتنع منه بصوابية قراره ولم تستطع أن تقنعه بالتراجع عنه. اعتبرت هذه الشخصية أن هذا القرار مكلف جداً على صعيد الطائفة السنية من دون أن يكون مردوده جيداً على صعيد الرئيس الحريري ولكن الحريري لم يكن من هذا الرأي. هذا القرار كان سيطر على عقله وتفكيره منذ مدة ولم يستطع الخروج من هذه الحالة.
تعتبر هذه الشخصية أن هذا القرار سيترك فراغاً كبيراً على صعيد الساحة السنية وهي تتخوف من أن يلجأ «حزب الله» مع التيار الوطني الحر إلى اختراق هذه الساحة معتمدين وسائل كثيرة متاحة لهما خصوصاً على صعيد الإمكانات المالية التي يمتلكها الحزب في هذه المرحلة ويستخدمها.
تتوقع هذه الشخصية أنه في حال حصلت الإنتخابات واستمرت هذه الأجواء سيكون هناك امتناع سني كبير عن المشاركة قياساً إلى الإستياء الذي تركه قرار الحريري ذلك أن الأسماء التي تطرح نفسها أو المطروحة حتى اليوم لا تترك ارتياحاً لدى الرأي العام في الشارع السني في بيروت وفي المناطق. ولذلك ترى هذه الشخصية أن على دار الفتوى أن تتولى دوراً كبيراً لمنع حصول مثل هذا الأمر وتبديل مزاج الشارع السني.
فالأحباش مثلا لديهم حزبيتهم ومؤيدوهم وهم قاعدة محصورة لا يمكنها أن تتحول إلى قوة أكبر وتستقطب من هم ليسوا من محازبيها. والجماعة الإسلامية تنظيم حجمه معروف ولم يستطع أن يتمدد داخل الساحة السنية. تتوقف الشخصية المذكورة عند النائب فؤاد مخزومي وتعترف بأنه قام بحركة سياسية لافتة في الأسابيع الماضية وأعلن مواقف عالية السقف ولكنها تعتقد أنه لم يحقق الغاية المرجوة ذلك أن انتقاداته للرئيس سعد الحريري سترتد عليه سلباً لأن جمهور الحريري اعتبر أنه حاول استغلال ضعف الحريري ليبني عليه وبالتالي لن يتحول مخزومي إلى حالة شعبية أكبر بكثير مما يمثل اليوم. فالسنة لا يمكنهم أن يعتبروه أنه ضمانة لهم كما كان رفيق الحريري وسعد الحريري.
تسمي هذه الشخصية أسماء عديدة تعتقد أن «حزب الله» يعمل على دعمها ومدها بعناصر القوة من المال والمساعدات وهي تتوزع في بيروت ومختلف المناطق وتذكر على سبيل المثال لا التعميم كمال الخير في الشمال وشاكر البرجاوي في بيروت والأحباش. وتقول هذه الشخصية أن معلومات توفرت لديها عن لقاء جمع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مع الشيح حسام قراقيرة رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) من أجل التنسيق والتحالف في الإنتخابات.
تعتبر هذه الشخصية أن الطرف السياسي الأقرب إلى توجهات الساحة السنية اليوم هو «القوات اللبنانية» على رغم ما اعترى علاقة القوات بالرئيس الحريري من اختلافات في المدة الأخير لأن هذا الشارع يعتبر أن «القوات» هي القادرة على مواجهة «حزب الله» والمشروع الإيراني في لبنان. ولذلك رأت هذه الشخصية أن القصف بدأ على جبهة القوات من الذين يريدون أن لا يكون هناك التقاء قواتي مع القواعد السنية.
عن الدور الذي يمكن أن تلعبه دار الفتوى في هذا المجال من أجل منع السنة من الدخول في حال من الإحباط الكبير، تقول هذه الشخصية أن المفتي عبد اللطيف دريان واع تمام لخطورة مثل هذا الأمر ويعتبر أنه هدف يريد محور الممانعة تحقيقه ولذلك لا بد من العمل لمنع حصوله. ومن هنا هناك تواصل بين دار الفتوى وعدد من القيادات السنية كرؤساء الحكومات السابقين من أجل بلورة موقف يمنع عزلة الطائفة السنية ويحول دون سقوطها السياسي واضمحلال تأثيرها في اللعبة الداخلية وتهميشها ذلك أن هذه المحاولات لم تبدأ اليوم وكنا نعيشها منذ ما قبل اتخاذ الرئيس الحريري هذا الخيار. ولكن في هذا التحرك تحاذر دار الفتوى الدخول في مشاكل مع القريبين من جو «حزب الله» كعبد الرحيم مراد وغيره. المسألة بحسب هذه الشخصية تتعلق بالشخصية السنية المعنوية والسياسية. غياب الثقل السني يعني الغياب الفاعل عن موقع الرئاسة الثالثة وتحويلها إلى مجرد وظيفة يتم تعيين موظف فيها لا رئيس وهذا ما لا يجب أن يسمح به.
هل يمكن أن تؤدي هذه الإتصالات إلى لقاء في دار الفتوى مثلاً؟ لا تستبعد الشخصية الإسلامية الدينية القريبة من دار الفتوى مثل هذا الأمر ولكن بعد أن تكون هذه الإتصالات نضجت وتوصلت إلى اتفاق يمكن الإعلان عنه لرسم خريطة طريق للتحرك قبل الإنتخابات النيابية ومن أجل تنظيم عملية الدخول في هذه الإنتخابات كمرجعية ناظمة لها حتى لا تعم الفوضى ويسود التنافس وتحصل الخلافات.
كيف يمكن العمل للحد من أخذ الأمور نحو توجيه الإتهامات للمملكة العربية السعودية مثلاً؟ لا تخفي الشخصية الإسلامية أن مثل هذا الأمر يحصل في أماكن محصورة وهي تعتقد أن ما تم تظهيره كان مقصوداً ومن عمل أجهزة مخابرات إيران و»حزب الله» من أجل تظهير أن هناك خلافاً بين الشارع السني اللبناني وبين المملكة العربية السعودية. وتنقل هذه الشخصية أن المملكة لم تتوقف عند هذه الأمور وأن بعض ما قيل لا أهمية له عندها. ولذلك من مهمة دار الفتوى أيضاً والقيادات السنية الفاعلة ومن مهمة الرئيس سعد الحريري العمل على أن تبقى العلاقة مع المملكة العربية السعودية فوق الشبهات وأن تبقى المملكة قبلة الطائفة السنية الدينية والسياسية لأنها لا تتوقف على مستقبل شخص بل على مستقبل طائفة ووطن.