أخذ اجتماع النواب السنّة في دار الفتوى يوم السبت بعض الأضواء السياسية، التي ما زالت مسلّطة على فاجعة غرق زورق المهاجرين قبالة الساحل السوري، وعلى الاستحقاقات المنتظرة بدءاً من اليوم الاثنين، حيث يستكمل مجلس النواب مناقشة مشروع موازنة العام 2022 وسط مساعٍ لحشد النصاب المطلوب لإنعقادها وإقرارها برغم شوائبها، ومنع قوى المعارضة المستجدة من تطيير النصاب، عدا ترقّب اللقاء بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي للبت في التشكيلة الحكومية المنتظرة، وترقّب النص المكتوب للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين حول مقترحات ترسيم الحدود البحرية.
كل هذه العوامل الضاغطة، تأتي وسط نقاش ومواقف وسجالات في البلد حول هوية لبنان وأي نظام نريد وأي رئيس جمهورية وأي حكومة؟ عبّر عنها بصراحة بيان النواب السنّة من دار الفتوى، الذي تضمن نقاطاً أساسية من كلمة المفتي عبد اللطيف دريان في مستهل الاجتماع. وهي نقاط لا خلاف عليها أصلاً، ويبدو خلق النقاش حولها مفتعلاً لأسباب سياسية ولحسابات تتعلق بتوجهات القوى السياسية للتعاطي مع الصراعات القائمة في الاقليم، ما يجعل لبنان فعلياً في قلبها وليس بمنأى عنها كما يريد أو يدّعي البعض بتبنّي «الحياد»، إذ أظهرت مسارات الأحداث منذ أكثر من عشر سنوات ان لبنان لا يستطيع تطبيق الحياد الفعلي في ظل التدخلات الخارجية في كل كبيرة وصغيرة فيه وارتهان معظم القوى السياسية لإملاءات الخارج المشرقية منها والغربية.
لذلك جاء بيان النواب السنّة في أغلب نقاطه من باب تحصيل الحاصل أو الوضع القائم فعلاً، بخاصة لجهة «تأكيد عروبة لبنان وانتمائه الى محيطه القومي، والتمسّك بإتفاق الطائف ودستوره، والإيمانِ بِلبنَانَ وَطناً نِهائيّاً لِجَمِيعِ أبنائه، والتمسّك بأسُسِ الوِفاقِ الوَطَنِيّ وَالعَيشِ المُشتَرَكِ وسيادة لبنان ووحدة أراضيه…»، عدا النقاط التي تتعلق بالإصلاح والمساءلة والمحاسبة ومواصفات رئيس الجمهورية، وهي المسائل التي يقرّ بها ويتبنّاها جميع الأطراف.
لكن التجربة أظهرت أن تبنّي الشعارات شيء وتنفيذها شيء آخر، فلا جرى احترام دستور الطائف وتنفيذ العديد من مندرجاته، ولا جرى الالتزام بحياد لبنان عن الصراعات الاقليمية والدولية، ولا جرى تطوير أو تجديد النظام السياسي القائم على الطائفية والمحاصصة. ولعل مذكرة النائب جهاد الصمد التي قدّمها في إجتماع دار الفتوى وضعت الإصبع على الجرح لجهة تحديد مكمن العلّة في النظام، حيث قال في كلامه عن اتفاق الطائف: «أن التجربة والممارسة قد أثبتتا بعد أكثر من ثلث قرن، حاجتهما الماسّة لبعض التفسيرات والتعديلات والإضافات، حرصاً على حسن سير المؤسسات الدستورية، ومبدأ فصل السلطات وإرساء دولة الحق والقانون». أما القضايا الأخرى كمثل هوية لبنان العربية، والتمسّك بالعيش المشترك والالتزام بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب «ولو بالكلام المعسول»، والحق في مقاومة الاحتلال، كلها أمور متفق عليها نظرياً ولو اختلفت بعض التفسيرات لكيفية تطبيقها.
لذلك تبقى المشكلة الأساسية في لبنان هي طبيعة النظام الطائفي والتفلت المقصود أحياناً من بعض الالتزامات الميثاقية والوطنية، والممارسة السياسية الكيدية حول مواضيع ظرفية مصلحية، ما يفرض البحث الجدّي في إعادة درس بعض بنود دستور الطائف لتصويب الملتبس والغامض أو تعديله بما لا يمسّ جوهره، وتنفيذ ما لم ينفذ منه، وبخاصة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس الشيوخ بعد إلغاء التمثيل الطائفي النيابي وإلغاء التعيينات الطائفية في المراكز الإدارية. وتطبيق بند «فصل السلطات وتوازنها وتعاونها» تطبيقاً فعلياً، وبندي اللامركزية الإدارية والإنماء المتوازن… وسواها من بنود دستورية تم تجاهلها من قبل من تولّى الحكم بعد الطائف.
صحيح ان لقاء دار الفتوى اقتصر على النواب السنّة، لكن جوهر البحث والمواقف التي صدرت تجاوزت الإطار الطائفي والمذهبي الضيق الى إطار وطني أوسع وأشمل، لا سيما لجهة تحديد الكثير من الثوابت الوطنية العامة. ويبقى المهم في الذي صدر الالتزام به وتطبيقه وتسييله نيابيا اقتراحات قوانين من النواب الذين التزموا البيان وثوابته.